ترك الربيع العربي، اثره الشديد على البنية الاجتماعية، اذ ان شعار « ارحل» الذي تم اطلاقه في الثورات العربية، ضد الحكام والانظمة، لم يتبدد حتى يومنا هذا.
من السهل اليوم، ان يصف البعض الشعوب بالتنمر ضد السلطة، وكلما غضب انسان، من مسؤول، ايا كانت درجته خرج ضده هاتفا، لوحده او مع اخرين، قائلا له «ارحل» وقد شهدنا هذا مرارا في الاردن، في احدى الجامعات، وفي احدى مديريات التربية، ومواقع اخرى.
سوف تتكرر هذه الحوادث، فقد بات سهلا جدا، الخروج على المسؤول، والهتاف في وجهه، لاي سبب كان، وتصوير هذه المشاهد، بهتافاتها وبثها بثا مباشرا، فلم يعد هناك، ما يمنع، ولا كلفة قانونية او اجتماعية، على تصوير مسؤول او مسؤولة، مادمنا حتى في قضايا الضرب والقتل، ننهيها بتقبيل الذقون وصب فناجين القهوة، في بلد يرفع شعارات العصرنة والتطوير والتحديث، ونتباهى بكوننا الاكثر تعليما في الشرق الاوسط، والاكثر سفرا، والاكثر انفتاحا.
كيف يمكن ان نشخص هذه الظاهرة، هل يكفي هنا لوم الموظف، وشتمه، باعتباره يتطاول على «ذوات كبار» في مواقعهم، ام ان المشكلة تعبر عن ضيق الافق واستعصاء الخيارات، وغياب القدرة على حل الاشكالات، والاستماع الى المظالم في بعض الحالات، مما يولد نمطا غريبا من رد الفعل، يعتمد على التجمهر في اي مؤسسة، والهتاف بالقول « ارحل» والتشهير بالمسؤول او المسؤولة، دون مراعاة حتى لسمعة عائلته، او للاضرار التي تلحق بالابناء والبنات، من هكذا تصرفات؟!.
هل يبيح ظلم المسؤول او تجاوزه على موظفيه، اذا وجد، هكذا انماط من ردود الفعل، ام ان النمط ذاته يعبر عن تجاوز في رد الفعل، خصوصا، ان ذنوب المسؤول المخطئ، لا تتيح ايضا، انفلات رد الفعل، وبحيث يتساوى في النهاية الغاضب والمغضوب عليه؟!.
اين هي الجهات ذات الصلة، هنا، عن المسؤول وحمايته من جهة؟ واين هي ايضا، عن المواطن او الموظف في حال عدم احتماله ووجود مظالم في مؤسسته؟ ومن يفك الاشتباك بين الطرفين، مسبقا، بحيث يخضع الجميع، لمعايير لاتجاوز فيها قانونيا، ولا اجتماعيا، بدلا من هذه الحالة، التي تنتهي ايضا، بانتقائية، في بعض الحالات، فيرحل البعض حقا، عن موقعه، وبرحيله يؤسس لمبدأ تكرار الحالة، فيما حالات اخرى، لا يرحل المسؤول الذي يطالب البعض باسقاطه، بل ويتم اتخاذ اجراءات ضد الذين يشهرون به، ويهتفون ضده، وكأننا امام انفصام في المعالجة، لاسباب لا يفهمها احد، بدلا من المعيار الواحد؟!.
التحريض على الموظف، امر ليس حكيما من جهة اخرى، فقد يعاني لاعتبارات كثيرة، توصله الى هذه المرحلة، من الغضب، لكنه غضب غير مقبول من ناحية قانونية واجتماعية، بسبب طريقته وشكله، وما فيه من ثأرية وتحشيد وتشهير عبر التصوير واخفاء لما قد يكون تشكيلا للوبيات بين الموظفين لاعتبارات شخصية، وليس لاعتبارات الظلم، هذا في الوقت الذي لا يمكن فيه ابدا، اعتبار ان المسؤول على حق دوما، فقد يتجاوز حدوده، وقد يوظف سلطاته بطريقة جائرة، ويتمادى، وهو امر يعرفه الجميع، ونراه في حالات كثيرة، مازالت كامنة في المجتمع.
معالجة هكذا مشاهد، بشكل يومي، عبر ادارة كل حالة بحالتها، والسعي لطي كل حالة بحالتها، امر يعبر عن ذهنية «المياومة» في ادارة الازمات، اذ لابد من التنبه الى التحولات في النمط الاجتماعي، والى ما يجري من جانب المسؤولين من جهة، في مواقعهم، مثلما يتوجب التنبه الى ما يجري في جانب الموظفين، الذين قد يكونون على حق في غضبهم، وقد لا يكونون.
الخلاصة تقول اننا امام مشهد جديد، فالكل لا يخشى الكل، لا بالمعيار الاجتماعي-الاخلاقي، ولا بالقانوني، فيما الدولة مطالبة اليوم بالفصل بين المواطنين، من حيث اعادة ترسيم المساحات والحدود، بدلا من ادارة الازمات على طريقة «الفزيعة» بين مجموعتين تتشاجران على موقف سيارة، فهذه طريقة ستؤدي الى المزيد من المشاكل، وسنبقى نسمع هتاف «ارحل» فلا نعرف حقا، من الظالم ومن المظلوم، ومن القوي ومن الضعيف؟!.
الدستور