شرايين الحياء ماتت في قلوبهم
د. عديل الشرمان
24-09-2018 05:32 PM
يظن البعض انني سأكتب عن القلق الذي تناقلته وسائل الإعلام قبل أيام في عاصمة الحشد والرباط، الحبيبة عمان التي كانت وستبقى منارة للعلم والمعرفة ومنبعا عذبا للأخلاق، لن اكتب الى من خطط للقلق ودبر له، وساند ووافق ورافق، وحشد وجمع، أو لأولئك الخائضين المكذبين بيوم الدين، فالرسالة الإعلامية غالبا ما توجه إلى أولئك الذين يقرأون المكتوب أو يسمعون القول فيتبعون احسنه، انها الكلمات المكتوبة أو المسموعة التي تحدث الأثر في الضمائر الحية، الحديث في ذات قريب من السياق، ولكن عن شكل آخر من الفساد الأخلاقي، انه الوشاية، وتعني كلمة ( وشى الثوب ) أي طرّزه ، وحسّنه ، لهذا فالواشي يستخدم من أساليبه الدنيئة ومساعيه المسمومة للدس والخديعة ، ويجعل من لسانه أداة طيّعة لمآربه الخادعة التي تباعد بين الناس و تفرق بينهم ، والوشاية تبدأ من القلب ويترجمها اللسان ، لذا فهي خبث متأصل في النفس البشرية ، وهي من أخطر ما يهدد المجتمع .
فيما يلي بعضاً من النماذج والأشكال التي تتم بها الوشاية :
نموذج رقم (1) :
يسأل المدير أحد الموظفين من بطانته ممن اعتادوا أن يلتفوا ويبقوا حوله، ما رأيك ب (علي )، يجيب الموظف وكله خجل ووقار وعفة وأدب : يا سيدي حرام الواحد يجيب سيرة الآخر بالشر والسوء ، أعذرني عن الإجابة ياسيدي، وأنا أرى أن تسأل غيري، (خليها تيجي من غيري). ربما لا يعرف البعض ممن يسمع هذه الإجابة أن الموظف قد أجاب على سؤال المدير إجابة كاملة لا تحتمل النقصان، بل وذهب في ذم زميله الى ابعد من سؤال المدير، لكنه غلّف هذه الإجابة بقناع زائف من الحياء والخجل والتواضع .
وعلى أية حال فهذا الموظف يعرف تماماً انه أجاب على سؤال المدير بنية سيئة مليئة بالخبث وبكل المعاني غير الأخلاقية، لكن المشكلة تكمن في أن المدير ربما لا يعرف وتلك مصيبة أن إجابة هذا الموظف حملت تلك المعاني السلبية وربما يذهب بسذاجته الى أبعد من هذا عندما ترتفع صورة هذا الموظف في ذهنه أدبا وتواضعاً وخلقاً ..
نموذج رقم (2) :
في اتجاه آخر يسأل المدير أحد الموظفين ممن اعتادوا التمترس حوله تملقاً واستعراضا، ما رأيك ب (علي ) يتردد الموظف في الإجابة لإظهار عدم رغبته في الإجابة على السؤال ، لكنه داخلياً كم انتظر هذا السؤال مطولاً للإطاحة بزميله علي ، ثم يجيب : والله يا سيدي أن الأستاذ علي من أحسن الموظفين خلقاً وأدباً ، وياريت كل الموظفين بأدبه وخلقة، لكن عنده مشكلة بسيطة ما بدي احكيها، وهنا يتدخل المدير مشيراً عليه بأن يقول ما بداخله، فيقول متلهفاً للإجابة : يا سيدي أشعر أنّ الأستاذ علي ما بحبك ولا يطيق يشوف (خلقتك) أمّا للأمانة والله انه رجل مؤدب وخلوق.
أما المدير فيقول بغضب : شكراً الآن عرفت الصحيح ، كنت اشك في ذلك ويضمر له السوء.
نموذج رقم (3)
يدخل المدير منفعلاً وكله ضجر وتعب، يسرع أحد الموظفين إليه قائلاً : ( الله يعينك ياسيدي على هذا الحمل الكبير، والله ما حد يتحمل الذي تتحمله، لكن قلبك كبير، وعقلك كبير، والله إحنا موه عارفين كيف الشغل بدونك كان ماشي، وكيف بدونك بده يمشي) وبدأت أكتاف المدير ترتفع تدريجياً وقد أصابته نشوة وأخذته العزة، وبدأت شواربه المرتخية تشتد لتقف كالأشواك، ثم يلوذ الابله في صمتٍ عميق غارقاً في لذة وحلاوة ما سمع ...
الواقع أن هناك نماذج كثيرة لأولئك الساعين الى الوشاية ِ بالآخرين والى الوقيعة بين الزملاء وبث الضغينةِ بينهم، وكم من حقوق ضاعت وحياة دمرت، واحكام صدرت ظلما وجورا بسبب هذه البطانة غير الصالحة والحثالة من الناس ... انه داء متأصل في نفوس البعض، أصاب قلوبهم بالوهن والضعف، وأصبحوا بأمس الحاجة الى إجراء عمليات القلب المفتوح لعل وعسى أن يتم إصلاح أو استبدال ما تلف من شرايين الحياء والخجل وموت الضمير في قلوبهم.