لا نزال مع بعض المشكلات المفاهيمية التي بدأت تتفاقم في الصف الحركي الإسلامي، على خلفية التطورات الكبرى التي طرأت على الحالة الإسلامية، في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وما أدت إليه الارتكاسات التي حصلت، والجرائم التي وقعت، من ارتباك في ضمير ومفاهيم شباب الصف الإسلامي.
ولمزيد من الدقة؛ فإن المشكلة تقبع في عقول وضمائر الأجيال الأحدث سنًّا التي لم تتشبَّع بعد بكامل البرنامج التربوي، الدعوي والمفاهيمي والأخلاقي، مما أدى إلى بعض الارتباكات المفاهيمية، والتي طالت حتى بعض المكونات العقيدية التي من المفترض أنها تمثل أساس العمل الحركي.
ومن بين هذه الأمور، بعض التساؤلات التي ظهرت في أوساط الصف الحركي في الآونة الأخيرة، بفعل الجرائم التي ارتكبتها الأنظمة الحاكمة في أكثر من بلد عربي، في مقابل سلوك المجتمع الدولي، الذي لا يزال يعترف بهذه الأنظمة، ويتعاون معها تحت أكثر من مسمَّى، مثل "مكافحة الإرهاب".
وتنصب هذه التساؤلات على قضايا كُلِّيَّة، مثل "أين العدل الإلهي مما يجري؟!"، وأين الله تعالى من الظالمين؟!"، و"لماذا لا ينصرنا الله؟!"، وغير ذلك من التساؤلات التي تكشف عن قصور مفاهيمي كبير لدى أصحابها.
ولقد ناقشنا من قبل قضية النصر الإلهي والعوامل التي تجعل الله تعالى يمنَّ بنصره على مَن يشاء من عباده، والقوانين العمرانية والأخلاقية الحاكمة لذلك.
وقلنا إن النصر الإلهي لا يتعلق بنقطة زمنية يحددها الإنسان، وإنما بتنفيذ اشتراطات وضعها الله عز وجل ، يجب أن تعمل الجماعة المسلمة على أن تستوفيها، ومن بينها التجرُّد والنيَّة والإخلاص في العمل، كما أن الصراع بين الحق والباطل؛ ليس معركة ساعة، وإنما إلى قيام الساعة .
وكل ذلك، شاءته حكمة الله تعالى البالغة، والتي ينبغي على الإنسان أن يدرك أنه لن يمكن أن يصل إليها بعقله القاصر المجرَّد هذا، وأن ما عليه سوى طاعة ما أمره الله تعالى به.
وفي هذا الموضع، نقف أمام مشكلة أخرى، تتعلق بغياب الفهم الحقيقي لقضية الثواب والعقاب، وما يرتبط بذلك في صدد طبيعة العدل الإلهي، كما هي في الإسلام حقيقةً، لدى شرائح من الشباب الذي كان لا يزال في مستهل مشواره في الحركة الإسلامية.
ولسنا مفتئتين لو قلنا إن هذه المشكلة أوضح ما تكون في جماعة "الإخوان المسلمين"، باعتبارها الأكبر والأوسع انتشارًا، وأنها التي كانت أكثر من غيرها من الحركات الإسلامية تصديًا للواقع وساعيةً إلى تغييره، وخصوصًا في بعض الدول التي استتبت فيها الأمور ظاهريًّا للأنظمة التي انقلبت على الشرعية أو ارتكبت جرائم في حق شعوبها، بينما تقول صيرورات الأمور وظواهرها، بأنها باقية إلى حين.
هنا ظهر تساؤل ينم لن نقول عن خلل في العقيدة، بقدر ما ينم عن خلل مفاهيمي في مثل هذه المواقف، قاد إلى شكل من أشكال ما عبر عنه القرآن الكريم تعبيرًا واضحًا في موقف مماثل تعرض له المسلمون الأوائل في غزة الخندق؛ حيث قال رب العزة سبحانه في وصف حالهم: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [سُورة "الأحزاب" - الآية 10].
وينصب هذا التساؤل حول قضية كبرى تناولها القرآن الكريم في مواضع عديدة، وهي عقاب الظالمين، والقصاص الإلهي منهم.
ويرتبط هذا التساؤل بذات النقطة التي نوقشت في أكثر من موضع سابق للحديث، وهي خطأ التصور الزمني لدى البعض حول صراع الحق والباطل، وانتصار الحق فيها.
وهنا نشير إلى بعض المفاتيح المهمة التي يجب على تربويينا وقادتنا أن يعملوا على صياغتها بشكل أكثر تفصيلاً في أوراق يتم تعميمها بمختلف وسائل الاتصال والتواصل، سواء في برامجهم الدينية والسياسية،
الإنسان المسلم ينبغي عليه أن يُدرك أن ما عليه سوى العمل، بينما النتيجة هي على الله تعالى، وفق ما تشاء حكمته البالغة
المفتاح الأول، هو أن الإنسان المسلم ينبغي عليه أن يُدرك أن ما عليه سوى العمل، بينما النتيجة هي على الله تعالى، وفق ما تشاء حكمته البالغة، وأنه لا ينبغي على المسلم صحيح الإسلام، أن يعترض على أحكام الله تعالى، التي هي بشكل أو بآخر، صورة من صور القضاء والقدر، والإيمان بهما، هو جزء لا يتجزأ من عقيدة المسلم.
كما أن على المسلم أن يدرك أن عمله، إنما هو له، بينما دين الله تعالى، ماضٍ في طريقه، ولن يضر المجرمون اللهَ ولا دينه شيئًا، وهو أمر ثابت في القرآن الكريم، في أكثر من موضع بشكل لا لبس فيه.
أما المهم فيما يخص موضع هذا الحديث، هو أن يدرك الإنسان المسلم أن قضية العدل الإلهي، لا ترتبط بالدنيا، ولا ترتبط بنقطة زمنية يحددها الإنسان وفق هواه وتصوراته، وإنما الأمر خاضع لإرادة الله تعالى ، وحكمته.
ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن تكتمل إجراءات عدله في الدنيا؛ بحساب الآخرة.
أي أنه لو لم تكن هناك آخرة؛ لكان العدل الإلهي – حاشا لله وتنزه سبحانه وتعالى عن كل نقص – ناقصًا.
ولذلك؛ فإنه من الوارد جدًّا وفق المشيئة الإلهية أن يموت الظالم من دون عقاب في الدنيا .
والنماذج أمامنا في ذلك كثيرة، فهناك المجرم الصهيوني الهالك بيريز؛ قد مات ميتة طبيعية وفق التعبير الدارج، من دون عقاب على جرائمه، وهناك رابين، وهناك الكثير من طُغاة العصر في زمننا هذا، والأزمان السابقة عليه؛ فهل نال هتلر، وسلوبودان ميلوسوفيتش، وستالين، وشارون، وكل المجرمين عبر العصور العقاب الذي يستحقونه حقًّا على جرائمهم؟!..
إطلاقًا، وحتى مَن شُنِق وأعدِم وعوقب في الدنيا؛ فإنه ذلك يبقى عقابًا قاصرًا، ولا يمكن للإنسان أن يوفيهم جزاءهم، وإنما الله تعالى وحده هو القادر على ذلك.
فهل جرائم راتكو ميلاديتش، جزار البلقان، ضد أهل البوسنة المسالمين، تفي بها أربعون سنة في أحد سجون أوروبا، كما حُكِم عليه؟!..
وكثيرٌ مِن أكابر مجرميها ماتوا من دون العقاب الكافي الذي قرره عدل الله تعالى لهم كما وصفه في القرآن الكريم، بعبارات مثل: "عذاب عظيم"، و"عذاب مهين"، وغير ذلك.
فهل يعني هذا أنهم أفلتوا؟!.. إطلاقًا. إنما عقابهم في الآخرة؛ هو استكمال للعدل الإلهي معهم.
لو مات المظلوم، أو مات ظالمه من دون الحصول على حقوقه؛ لا يعني ذلك نقصاً في الميزان حاشا لله؛ حيث الميزان يستند إلى ما في الدنيا والآخرة معًا من صيرورات ونتائج
كذلك المظلوم؛ لو مات ظالمه أو مات هو من دون الحصول على حقوقه؛ لا يعني ذلك نقصاً في الميزان حاشا لله؛ حيث الميزان يستند إلى ما في الدنيا والآخرة معًا من صيرورات ونتائج.
هذا ما يجب أن نفهمه، وعدم فهمه معناه نقص في معرفتنا بديننا وبخالقنا، أي – ببساطة - نقص في علمنا الشرعي، باعتبار أن معرفة الخالق، هو صُلب علم التوحيد، والذي هو بدوره أحد أركان العلوم الشرعية التي تشكل معرفتنا بديننا الحنيف.
وفي القرآن الكريم، كلام الله تعالى واضح للغاية في هذا الأمر؛ حيث يقول عز وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [سُورة "إبراهيم" - الآية 42].
عقاب الظالمين في الأصل؛ يكون في الآخرة، وليس في الدنيا، وما نراه من عقاب لبعض الظالمين، إنما هو عقاب العدالة الإنسانية الضعيفة القاصرة، بينما العدل الإلهي أقوى وأقدر على إيقاع الجزاء الملائم بالظالمين
يعني ذلك، أنه وفق الآية القرآنية الكريمة؛ فإن عقاب الظالمين في الأصل؛ يكون في الآخرة، وليس في الدنيا، وما نراه من عقاب لبعض الظالمين، إنما هو عقاب العدالة الإنسانية الضعيفة القاصرة، بينما العدل الإلهي أقوى وأقدر على إيقاع الجزاء الملائم بالظالمين.
وبكل تأكيد فإن هذه الحالة، هي مسؤولية التربويين وقادة الفكر والرأي في الحركة الإسلامية، والذين يتحملون في الوقت الراهن المسؤولية الكبرى في ظل الالتباسات الكبيرة التي نجمت عن الحرب التي يشنها خصوم الحركة على المشروع الحضاري الإسلامي بأكلمه.