نتساءل دائماً لماذا نرتضي الخنوع والاستكانة في كثير من الحالات أمام واقع مرير، ونستسيغ الاستضعاف والهوان ولا نوقظ عقلنا ونظل متبلّدين مستأنسين بالكسل وبما نحن عليه من حالٍ مزرٍ كئيب؟ نائمين مسترخيين لا نرغب في التغيير ونخاف المغامرة.
نتساءل ما الذي يجعل الواحد فينا مستكيناً يرضى بالعبودية ويحبذها ويأنس بها وكأنها نصيبه المكتوب له في هذه الدنيا والذي لا مفر من الرضا به والتعايش معه بقناعة الضعفاء والواهنين.
هذه الحالة السائدة لدينا والتي يسميها علماء الاجتماع حاله" المواطن الساكن المستقر " أو المستكِّن حالة ليست وليدة اليوم إنما شربناها وتجرعناها عبر تاريخنا منذ قرون، ولا زالت آثارها ماثلة فينا.
كتب المفكر الفرنسي إيتيان دولابواسييه في كتابه” العبودية الطوعية” قائلا” عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل الأمد لا ينفك، تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية ولا تحلم بها ولا تتوق اليها، أجيال تتلاءم مع الاستبداد والقهر وتعيش معه، ويظهر في المجتمع ما يمكن أن نسميه ظاهرة المواطن المستقر الخامل الذي يعيش في عالم خاص به، تنحصر اهتماماته في ثلاثة أشياء هي: الدين ولقمة العيش وكرة القدم!
ويبين في كتابه، أن الدين عند هذا الانسان الخامل الذي ظهر نتيجة سنين طوال من القهر والاضطهاد، الدّين عنده لا علاقة له بالحق والعدل والأخلاق، إنما هو مجرد أداء للطقوس والشعائر ولا ينصرف غالبا الى السلوك، فهؤلاء الذين يمارسون وبلا حرج الكذب والنفاق والرشوة يشعرون بالذنب فقط إذا فاتتهم إحدى الصلوات!
هذا النوع من الناس لا يدافع عن دينه إلا إذا تأكد أنه لن يصيبه أذى من ذلك، وقد يستشيط غضباً ضد الدول التي تبيح زواج المثليين مثلاً بحجة أن ذلك ضد إرادة الله، لكنه لا يفتح فمه بكلمة واحدة مهما شاهد من صور الظلم في بلاده أو عدد الذين أُكلت حقوقهم، ولا يرف له جفن لازدياد نسب البطالة والفقر، ولا يتحرك وجدانه لصور القتل والدمار ويكتفي فقط بقول: لا حول ولا قوة الا بالله!
المواطن المستقر او المستكن او الخامل، يفعل الفاحشة والفساد في بلاده جهارا نهارا وبعد ذلك يلعن الشيطان ويكتفي بقول استغفر الله وتنتهي المشكلة لديه!
لقمة العيش هي الركن الثاني في حياة المواطن المستقر، كما يبين المفكر الفرنسي دولابواسييه في كتابه” العبودية الطوعية” فهذا المواطن لا يعبأ إطلاقاً بحقوقه السياسية، ولا أية إصلاحات سياسية وليس له موقف نبيل تجاه القضايا المصيرية التي تهم الوطن لأنه لا يعبأ بها أصلاً، عاجز عن الإحساس بمعاناة الغير وادميتهم انه يعمل ويكرّس حياته فقط من أجل تربية أطفاله واطعامهم حتى يكبروا، ودائما يردد " بدنا ناكل خبز" يزوّج البنات، ويشغّل الأولاد ثم بعدها يفكر بالحج إلى بيت الله استعدادا لنهاية رحلة حياته مؤمّلاً النفس بحسن الختام.
انه واقع الحال الذي نعيشه، حال يجسّد معاني كثيرة من العبودية والانصياع وإدمانٍ للوهم بأننا بخير وأن العدالة قائمة وأن السعادة قادمة.
المواطن المستقر الْيَوْمَ في ذروة نضجه واستقراره لا يفكر الا برغيف الخبز ليطعم أولاده، وتعليم متوسط لهم وتزويج البنات ليحقق لهن أمان قبل أن يموت! ويشاهد بعدها مباراة حاسمة لكرة القدم،
المواطن المستقر هذا هو العائق الحقيقي أمام كل تقدم ممكن، وهو حجر العثرة أمام كل إصلاح، لن يتحقق التغيير إلا عندما يخرج هذا المواطن المستقر من شرنقته ويتحرر من عالمه الضيق ويتأكد أن ثمن السكوت على الفساد والاستبداد والظلم أكثر بكثير وأفدح بكثير من نتائج مكافحته !!