الناس عندنا لا تحب أن تصدق التصريحات الرسمية. عندما كانت هذه التصريحات تعلن أن شيئا لم يعرض على الأردن ولا علم لدينا بتفاصيل صفقة القرن المفترضة، وفي كل الأحوال الأردن ملتزم بالموقف والحق الفلسطيني وشروط الحل العادل وفي المقدمة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وعندما كان جلالة الملك لا يعبّر عن هذا الموقف، فحسب، بل يبذل كل جهد في اللقاءات العلنية كما في اللقاءات المغلقة من أجل هذا الموقف الذي يمثل قناعة ومصلحة صميمة للأردن والمنطقة لضمان الاستقرار والسلم، ظلّ البعض يشكك ويصر ويتوقع أن صفقة ما قيد الطبخ!..
إذا كان ثمّة ضغط على الأردن بشأن صفقة القرن فإن إثارة البلبلة والشكوك بشأن الموقف الرسمي المعلن يقع في صميم آلية الضغط لإضعاف هذا الموقف. ثمة معلومات وإشاعات لا أحد يعلم مصدرها وقد يكون بعضها موجها لإثارة البلبلة والاضطراب والإرباك. يجب الانتباه أن جزءا من إضعاف الموقف الرسمي حين يكون صامدا وملتزما بالثوابت الوطنية، هو إثارة الشكوك حوله وتقويض مصداقيته في عيون الرأي العام. ويتطوع نشطاء على وسائل التواصل بوعي أو بدون وعي بتعميم الفبركات وتناقل التحليلات التي تدعي العمق والاطلاع. ولا تخلو جلسة من تناقل الحديث عن حقيقة ما يجري تحت الطاولة، وأنا بالعادة أخيب أمل السائلين بالقول فورا إن كل شيء معلن وموجود فوق الطاولة ومن مصادره الأصلية في الأخبار والتصريحات التي تصدر من كل الأطراف.
ها قد انقضى الوقت ولم نر أي صفقة، بل إن فرص التسوية باتت أبعد من أي وقت مضى بالمواقف الأميركية الأخيرة. فالحديث المبهر عن صفقة قرن تحقق المستحيل كان يعني البحث عن مقاربات مبتكرة لتجاوز الاستعصاءات القديمة. لكن ترامب كان يتخذ بكل خفة ورعونة قرارات أحادية مشؤومة مثل نقل السفارة إلى القدس باعتبارها العاصمة الموحدة ثم يقطع الأموال عن وكالة الغوث لتصفيتها كعنوان لقضية اللاجئين، وأخيرا يؤيد قانون القومية اليهودي الأكثر عنصرية في تاريخ الدول. وإزاء ردود الفعل الفلسطينية المستنكرة والتي اعتبرت، عن حق، أن الولايات المتحدة أفقدت نفسها دور الوسيط المقبول، يتم الردّ بتصعيد عدائي بإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن.
صفقة القرن ماتت قبل أن تولد ومن الغباء أن نستمر نحن في الترويج لها وتوقعها وربط كل شيء بها، بينما في الإعلام الأميركي لا يكاد يتذكرها أحد. وبدل الحل الشامل سوف تستمر إسرائيل بدعم أميركي في تهويد القدس وتوسيع المستوطنات وإلغاء فرص الدولة المستقلة وآخر ما حرر هو إعلان الرفض القاطع للربط بين الضفة والقطاع!
وعليه فالعرض لأهل غزة هو اقتصادي وإنساني ولأهل الضفة المسلوبة نصف أراضيهم حكم ذاتي مرتبط بصورة ما بالأردن.
ثمة طابور خامس يشكك بالموقف الرسمي ويفترض قابلية الأردن للتواطؤ في هذا الدور ويتجاهل موقف القيادة القاطع مع أنه موقف يستند إلى مصلحة وطنية أردنية عليا تشخصها كل مراكز التفكير والقرار. مصلحة الأردن وطنا وقيادة وشعبا ونظاما سياسيا هي في قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. حرمان الفلسطينيين من حقوقهم السياسية في السيادة والمواطنة على أرضهم. يعني تصريفها في مكان آخر وترحيل الأزمة خارج فلسطين. قتل فرص الدولة الفلسطينية المستقلة يعني إحياء فرص الوطن البديل. هذا ما بات يعرفه كل طفل في الأردن وفلسطين.
ولذلك دون ادعاء أي بطولة فالأردن لن يحفر قبره بيده ولن يكون طرفا أو غطاء لأي مشروع تصفوي. حتى لو وصلت فرص الدولة الفلسطينية إلى الصفر. فهذا يجب أن يضع إسرائيل وحدها وجها لوجه مع المشكلة الديمغرافية التي تجعل من إسرائيل نظام فصل عنصري لا يمكن أن يدوم.
الغد