لستُ من أنصار نظرية المؤامرة، بالمعنى الهستيري الذي يسكن عقول نخب مثقفة وسياسية عربية عريضة، فيتم تصوير كل ما يحدث حولنا، وكأنّه جزء من مخطط جهنّمي. بل على النقيض من ذلك قناعتي الراسخة هي أنّ علينا تحمّل مسؤولياتنا، وعدم التغاضي عن تقصيرنا بافتعال أسباب خارجية، وأكثر من ذلك لا يمكن لمؤامرة أن تنجح إلاّ إذا كانت شروطها في الداخل متوافرة، وربما يلخّص ذلك قانون مالك بن نبي (الشهير) "القابلية للاستعمار".
بالرغم من ذلك، فإنّ ذلك لا ينفي وجود تصورات وسيناريوهات ومخططات مريبة في كثير من الأحيان، تتطلب الوعي بها والتنبّه لنتائجها ودلالاتها، وفي أحيانٍ كثيرة ذلك يتطلب تجميع الأجزاء لبناء "الإطار الكامل" ومشاهدة الصورة بأبعادها المختلفة، حتى نفهم إلى أين تتجه الأمور.
القصة تبدأ من وجود توجه واضح وعلني ومتسارع لدى إدارة ترامب والفريق اليميني من حوله لتصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء ملفات الحلّ النهائي، بداية من القدس، ومروراً بقطع المعونات عن الأونروا، وإعادة تعريف صفة اللاجئ الفلسطيني، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وأخيراً تسريبات منسوبة للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بطرح موضوع الكونفدرالية الأردنية- الفلسطينية (وهي عملياً تعني ضمّ التجمعات الفلسطينية في الضفة للسيادة الأردنية)، تلتها تعليقات جدية من شخصيات إسرائيلية على الموضوع، الذي أعلن الأردن، من حيث المبدأ، أنّه مرفوض جملةً وتفصيلاً.
الشطر الآخر من المشكلة يتمثل بالانهيار الاستراتيجي العربي، فلا يوجد طرف صلب داعم للفلسطينيين ويقاتل في موضوعات القدس والأونروا واللجوء ورفض الكونفدرالية، كما هي حال الأردن، وإذا كانت الإدارة الأميركية قبلت على مضض موقف الأردن التصعيدي في ملف القدس، عندما أعلن نائب الرئيس الأميركي في عمّان "اتفقنا ألا نتفق في موضوع القدس، وعلى تحييده عن العلاقات الثنائية"، فإنّ هذا الموقف قد لا يكون بالصورة نفسها تجاه دور الأردن في الملفات الأخرى، بخاصة مع إدارة أميركية تتجاوز سياساتها طموحات اليمين الإسرائيلي نفسه!
في الأثناء يعاني الأردن من أزمة مالية واقتصادية خانقة، وبالرغم من الوعود بالمساعدات، فإنّنا لم نتلق شيئاً، وأكثر من ذلك لا نجد دعماً حقيقياً حتى للأونروا، التي شكّل مظلة اجتماعية- اقتصادية أساسية للاجئين في التعليم والعمل والخدمات الأساسية في المخيمات، ويطوف وزير الخارجية الأردني المقاتل، أيمن الصفدي، العالم لإيجاد بدائل حتى لا يتوقف عمل الأونروا، ويصبح الطلاب في الشوارع في نهاية الشهر الحالي!
فلنتجاوز ذلك كلّه، الأخطر هو أنّ الأردن وهو يعاني الأمرّين في آتون هذه الأزمة المالية والاقتصادية، وجزء رئيس منها مرتبط بما يحدث في المنطقة وكلفة اللجوء (بالمناسبة انخفضت المساعدات للاجئين السوريين بصورة كبيرة) يتفاجأ بتشدد كبير من صندوق النقد الدولي في موضوع ضريبة الدخل، وإصرار على وصفة معينة، بالرغم من احتجاجات الرابع، وبالرغم من عرض الحكومة لخيارات بديلة!
في الأثناء تزدهر أجندة إعلامية مشبوهة تخلق شكوكاً بكل شيء، وكأنّ هنالك توجّهاً ما لإحداث اختلال داخلي وحالة عدم استقرار، وما بين السطور يكفي..
بالطبع، لا يعني ذلك أنّنا بلا مشكلات ولا أزمات، على النقيض من ذلك تماماً، فالجزء الأكبر مما وصلت إليه الحال مسؤوليتنا نحن، وأقصد السياسات المتراكمة، لكن لا نريد ونحن نبحث عن الربح والأفضل أن ندخل في مجازفة نخسر بها رأس المال نفسه، والمقصود هنا الحالة الداخلية التي طالما كانت صمام الأمان الحقيقي في عبور المنعرجات كافّة.
الغد