كوانتم والإطار الملحميّ في جدلية القدس والحضارة
أحمد نعيم
12-09-2018 04:56 PM
الحديث عن الرواية شيءٌ جدلي بالطبيعة، ذلك لأن مقومات الحديث عن موضوعاتها المتشابكة وحبكاتها المتنوعة وسردياتها المتنوعة تجعل من النقد شيئاً مُجهداً وممتعاً في آن. ولعلنا نعي جيداً أن هدف الأدب التقليدي هو "أن يُمتِّعَ ويعلِّمَ."
ولأن الأدب المعاصر قد يفشل في تعليم القارئ أو إمتاعهِ وذلك لتداعيات اقتصادية وسياسية شائكة، تجعلُ من المتعة أمراً غريباً بعض الشي. لقد تميزت أوروبا في فن الرواية، حيث استحوذ عليها "شغفُ المعرفة" لتظل حياة الإنسان مضاءةً دوماً في تيارات الوجود والمتعة. في رواية كوانتم لأحمد أبو سليم، يقتفي الكاتب آثار المعرفة والمتعة في أطرٍ تاريخية واجتماعيةٍ ودينية، حيث يُسافر القارئ في أشد أماكن الكينونة الفلسطينية ظُلمةً في لغةٍ متينة ماتعةٍ جامعةٍ ليست بالسهلة، لكنها ممتنعة عن التقليدية.
لعل من اللافت في سياق الرواية قدرة الكاتب على تأثيث صورٍ للجمال والقبح والبشاعة والقهر والظلم والحب والكره والإيمان والكفر وكثيرٍ من المتضادات الإنسانية في مدينة القدس المنكوبة. ولعل أبو سليم يجمع بين كل تلك الصفات البشرية المتضاربة في شخوصٍ لا تجعل من المشهد الروائيِّ إلا أيقونةً تاريخية اجتماعيةً كفيلم سنمائيّ يحاكي محنةة القدس.
بعيداً عن التداعيات النصية والجمالية للنص واللغة الفارهة في تأطير معطيات المحنة، فإن أبا سليم يقدِّمُ أطروحةً لافتةً في الرواية العربية تتمحور في محورين. الأول الأسلوب الملحميّ في السرد ونقل الأحداث على جسد الكلمات للقارئ. الثاني: الأسلوب التحاوريّ في تقسيم أدوار الشخوص في عملية السرد. ثم الاتكاء على نظرية الملحمة في السرد وتصوير الأحداث ونظرية الخيال التحاوريّ ل لكاتب الروسي ميخائيل باختين.
الملحمة هي "قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالباً ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه وتقص عن تحرك جماعات بأكملها وبنائها للأمة والمجتمع." تتطرق الملحمة في المجمل لأحداث تاريخية ساهمت في تشكيل الحضارات والبنى الزمكانية لحضارة من الحضارت وشعب من الشعوب عن طريق تجسيد ما قام به أبطال تلك الحضارة من أفعال جسام وتغيير الواقع الذي كان محفوفاً بالمخاطر والشرور. اللافت في رواية كوانتم هي تقنية الكاتب حيث قام ببناء نص روائي سردي متين يتِّكئُ على مزيَّتين محوريتين في الرواية: "البداية في منتصف الأحداث" و "الارتجاع الفني والإنذار بالقادم."
ابتدأت كوانتم "بزلزالٍ" جعل الناسَ يخرجون من "نومهم فزعين، حفاةً، أشباه عراة..." فيُلقى القارئ في منتصف الأحداث منذ الصفحة الأولى تماماً مثلما يُلقى "مستر بين" في بداية هذا المسلسل الكوميدي، فيبتدئ القارئ اللهاث خلف المعنى وتسلسل الأحداث و ورتق الفجوات بين شخصية و أخرى. يتبعثر القارئُ مجازاً بين فضاءٍ وآخر يخلقه الكاتبُ حول شخوصه المتنوعة المتعددة المرتبكةِ جراء الفجيعة وتحكم "إسرائيل" في النسق الوجودي للشعب الفلسطيني.
وفي بداية تقديم أبو سليم لشخصياته تلك، يصطدم القارئ بصخرة الارتباك قليلاً حيث تلعب الشخوص جميعها كجوقة موسيقية تحاول عزف أكثر المقطوعات الإنسانية بؤساً وشقاءً. ومعَ استمرارية عملية القراءة تنفتح سراديب حكاية القدس وحضارة شعبها المنكوب لدى القارئ وينتهي به المطاف في النهاية للمشهد الختامي لمسرح الأحداث.
وتقودنا هذه الاستراتيجية اللافتة إلى منحىً ملحميّ آخر، استطاع الكاتب به رسمَ لوحة فنية بالكلمات تُرمى على باب القارئ ليشرعَ بحل لغز أعظم النظريات الفيزيائية الوجودية في العلم الحديث، كوانتم.
حينما يُلقى القارئ في منتصف الأحداث بين فينةٍ وأخرى يشعر بالضياع قليلاً، لكنَّ الكاتب يستطيع في كوانتم رتق هذه الفجوة عن طريق الارتجاع الفني والإنذار بالقادم. يصادف القارئ أحداثاً وشخوصاً قد تبدو غير مترابطةٍ منذ الوهلة الأولى؛ لكنها سرعان ما تتمحور حول قضية واحدة ومحنة واحدة ومعضلةٍ وجوديةٍ واحدة. فما ذُكر بالبداية بشكل غير منتمٍ؛ يصبحُ منتمياً لاحقاً. يبقى القارئ على أهبة الاستعداد لإيجاد حجر الأساس للرواية كلها، ويدور في دوامة القدس، رجالها ونسائها بعلاقاتهم وتطلعاتهم ورؤاهم وإيمانهم وأشد همومهم حساسيةً.
ومعَ تداعي الأحداث واستمرارية النسق السردي المتنوع، والقفز بين "الأنا والهو" ينتهي المطاف بالقارئ على عتبة الركيزة الأساسية للرواية، ألا وهو النكبة وتعقيداتها على هيئة نظرية فيزيائية تُشير إلى سوداوية الأحداث ومأساة النبوغ لدى الشعب الفلسطيني ومدينته المقدسة-القدس.
ويلعب الرواة في كوانتم دوراً محورياً في تجسيد غرائبية السرد القصصي، حيث يقترب الكاتب من الأسلوب الديستوفسكيّ في السرد وتنوع الشخص والأيديلوجيات المتنازعة والمتناحرة. لكن، تلعب هذا الاختلافات والتنازعات دوراً لتصوير الأطروحة الأقوى في هذه الرواية-الجحيم الوجودية لمدينة القدس والمقدسيين. تتنوع عناوين الفصول ويتنوع فيها السرد فتارةً نرى الأنا وتارةً الهو وتارةً الأنت.
في السياق الخيال التحاوريّ ، تلعب أساليب السرد والأيديولوجيات المنتمية دوراً محورياً في تجسيد الأطروحة الرئيسة للرواية، والتي تتمثل في رؤية الكاتب للواقع التاريخي لمدينة القدس، شعبها ونكبتها ومحنتها، عن طريق نقل تجربة الشخوص المختلفة والمتنوعة إلى القارئ بطرق سردية متفردة ومتنوعة.
يعبِّر الكاتب بكل أسلوب روائي عن نمطٍ أيديلوجية مختلفٍ أيضاً؛ فتُشكِّلُ الأساليب كلها والأيديولوجيات كلها جسداً معرفياً لرؤية الواقع من مناظير متنازعة حيناً ومتناغمة حيناً آخر.