ها هو عام هجري جديد يطل علينا ويبدأ مشواره معنا , ونحن المسلمون جميعاً في وضع لا نحسد عليه , فالفرقة والإنقسام والإختلاف والتشرد والضياع والبلاء والغلاء وسيطرة الأعداء وتحكمهم بمقدرات الأمة , وأدهى من ذلك وأمر, إبعاد الأمة عن صناعة القرارات والمشاركة الفعلية في حكم نفسها , وتسلط الحكام الظلمة الذين لا يخافون الله على رؤوس شعوبنا هي الحالة السائدة في معظم أقطار المسلمين .
في ظل هذه الظروف والأحوال السيئة يطل علينا العام ألف وأربعة ماية وأربعين الهجري , وكلنا أمل ورجاء أن يجعله الله عام خير ونصر وفتح مبين , واجتماعا لكلمة الامة وتوحيدا لصفوفها , إن ربي على كل شى قدير وبالإجابة جدير .
بداية أود أن أبدا بالكتابة عن أهمية الهجرة في التاريخ الإسلامي ولماذا اختيرهذا الحدث الجليل ليؤرخ به تاريخنا , وما هي ميزته عن باقي المناسبات والأحداث الأخرى المهمة في تاريخنا الإسلامي .
بدأ استعمال الهجرة لتكون التاريخ الذي يؤرخ به في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه , فقد رأى عمر أنه لابد من وجود تاريخ خاص للمسلمين يؤرخون به ويختلف عن تواريخ الأمم السابقة , لتتميز الأمة عن اليهود الذين كانوا يؤرخون بالسنة العبرية , والنصارى الذين يؤرخون بالسنة الميلادية , والفرس الذين لديهم السنة الفارسية , فوقع اختياره بعد أن شاور المسلمين على حادثة الهجرة واعتمدها بداية للتاريخ الإسلامي , وما زالت هي المعتمدة لدى المسلمين .
لماذا مناسبة الهجرة هي التي اختيرت دون سواها من المناسبات المهمة الكثيرة؟ فيوم ميلاده صلى الله عليه وسلم ويوم أن أوحي اليه ويوم إسرائه ومعراجه ويوم بدر وفتح مكة ويوم وفاته , كلها مناسبات تصلح أن يؤرخ بها ,
إذا لماذا الهجرة دون سواها ؟
إن الهجرة هي التي فتحت أبواب التاريخ للإسلام والمسلمين , فلولا الهجرة ما كانت الاحداث التي حصلت بعدها لتحصل , فالهجرة هي بداية التمكين للمسلمين في الأرض , والإنتقال من حالة الاستضعاف إلى حالة التمكين للدولة الإسلامية في المدينة أولا ثم في سائر أنحاء العالم وعلى مدار التاريخ .
بالهجرة قامت الدولة أولا وبني المسجد وتمت المؤاخاة بين المسلمين , ووضعت وثيقة المدينة لتحدد العلاقة بين مكونات المجتمع من مسلمين وغيرهم , وبالهجرة بدأت الدعوة تأخذ شكلا جديد يختلف عن ما كان عليه بمكة , فبدأت الغزوات والفتوحات ببدر وما تلاها من أحد والأحزاب ومؤته وفتح خيبر والفتح العظبم لمكة وحنين و تبوك , وساد الإسلام على كل جزيرة العرب , ثم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم انطلقت الجيوش شرقا وغربا في أيام الراشدين والأمويين والعباسيين , وأصبحت دولة الإسلام هي القوة العظمى بالعالم خلال قرن من الزمان .
هذا هو التمكين السياسي والسيادي للإسلام , أما التمكين الذي لا يقل أهمية عن هذا والذي لولا الهجره ما كان, فهو التمكين الثقافي والفكري والتشريعي المنبثق من العقيدة التي أسس لها في مكة أولا واكتملت بعد الهجرة في المدينة , فالتشريعات وبعض العبادات كالصوم والزكاة فرضت بعد الهجرة , والدولة الجديدة التي أنشأت بعد الهجرة بحاجة الى أنظمة وقوانين خاصة بتنظيم أمور الدنيا والدين معا , لتتمكن الدولة من إدارة شؤون رعاياها من مسلمين وغير مسلمين بشكل عادل لا يظلم أحدا من الرعية .
لهذا كله لم تكن الهجره أمرا عاديا في حياة الرسول والأمه معه , فالهجره هي من كانت سبباً لتكوين الدولة والأمة التي استمرت لقرون طويلة , وبها بدأت المسيرة الخيرة لهذه الامة , وما زالت هذه المسيرة سائرة مع ما اعتراها من ضعف ووهن وتشويه وانحراف , وسيطرة للأعداء وفكرهم وثقافتهم عليها .
فلو افترضنا أن الهجرة لم تتم وبقي الرسول – صلى الله عليه وسلم- في مكة يعيش هو وأصحابه حالة الإستضعاف التي كانوا يعيشونها، فهل كان الإسلام سينتشر بالجزيرة العربية والدنيا كلها بهذه السرعة؟
إن الهجرة بلا أدنى شك أمرٌ رباني قبل أن يكون أمرٌ بشري، فالله تعالى هو الذي أمر رسوله وأصحابه بالهجرة إلى
المدينة بعد أن هيأ لهم البيئة الصالحة لإقامة الدولة في المدينة , والرسول –صلى الله عليه وسلم- هو إبن مكة التي ولد ونشأ بها وهي أرض أباءه وأجداده وعشيرته، ومرتع صباه، وحبُها في قلبه لا يعلو عليه حبٌ لمكانٍ آخر, ولكن إطاعة أمر الله وحمل الدعوة ونشرها مقدم على هذا الحب، لذلك عندما أمره الله بالهجرة لم يتردد ولو للحظة واحدة، ولم يسأل بالصعوبات والشدائد التي ستواجهه في طريق الهجرة، لإنه يعلم أن الله لا يضيعه ولديه اليقين الكامل بأن الله ناصره ومظهر دينه, ويعلم أن المدينة هي دار النصر والتمكين له في الأرض وليست مكة، لهذا خرج ملبياً لأمر ربه بدون تردد وخرج معه رفيق درب صاحبه أبو بكر الصديق، وكان أصحابه قد سبقوه بالهجرة إلى المدينة بأمرٍ منه، وذلك بعد أن هيأ الله الأنصار من أهل المدينة وبايعوه في العقبتين الأولى والثانية، بايعوه على نصرته وحمايته ومؤازرته إن جاء إليهم.
كل هذا الأمر تم بترتيب إلهي رباني ليتم التمكين للرسول ودعوته ودينه في الأرض (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) (القصص ) ، (إنا لننصر رسلنا والذين أمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) (غافر).
على المسلمين في هذه الأيام أن يعرفوا المعنى الحقيقي للهجرة جيداً وأن يستغلوا مناسبة هذا الحدث ليعاهدوا الله على أن ينصروه في أنفسهم أولاً وفي عباده وأرضه ثانياً وأن يحملوا الإسلام بدون تردد أو خوف أو ريبة أو قلق من عدم نصرة الله لهم، فالله الذي نصر رسوله وأصحابه بالهجرة ومكن لهم بها بالأرض, قادر على أن ينصرنا ويمكن لنا إن أوجدنا في أنفسنا وفي مجتمعاتنا شروط النصر والتمكين.
أخيراً أسأل الله العظيم أن يكون هذا العام الهجري الجديد 1440 , عام نصرٍ وتمكين وفتحٍ مبين للإسلام والمسلمين، وأن يرفع الله الظلم والإنقسام والضعف والهوان عن المسلمين في كل مكان وأن يوحد صفوفهم وأن يجعل دولهم دولة واحد, وجيوشهم جيشاً واحداً , ورايتهم راية واحدة , وحكامهم حاكماً واحداً , وأن نقيم دولة الأسلام في بيوتنا ومجتمعاتنا وبلادنا وان لا يمكن لأعدائنا منا, إن ربي على كل شيءٍ قدير.
اللهم غير حالنا وحال المسلمين لما تحبه وترضاه, واغفر لنا ذنوبنا وسيئاتنا وتوفنا مع الأبرار , وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين, وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.