تأملات في الهجرة النبوية وواقعنا المعاصر
د.خالد الملكاوي
11-09-2018 06:08 PM
تمر ذكرى الهجرة النبوية الشريفة عاما بعد عام فنقف عندها متأملين فيما حواه هذا الحدث العظيم من معانٍ، وما ترتب عليه بعد ذلك من فتوحات نَصَرَ الله فيها القلة المستعضفة من عباده وأذل جحافل الظلم والظلام فانتشر دين الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا ، نتأمل في هذا الحدث لنستقي منه المواعظ والعبر وكيف تكون ثمرة الصبر والثبات على الحق رغم الضعف، كيف تكون التضحية والإيثار رغم القلة، كيف تكون الجرأة في قول الحق رغم كثرة المخالفين ، كيف كان تآلف المسلمين وتحابهم وتآخيهم ووحدة الصف في وجه الظلم سببا من أسباب القوة والتمكين في الأرض، نتأمل في هذه المعاني فيثور في أنفسنا الحزن على واقع أمتنا المؤلم فننظر عيانا إلى تحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (كيف بك يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم كتداعيكم على قصعة الطعام تصيبون منه) ليس هذا فقط بل ننظر إلى الضعف والهوان و الفرقة بعد أن كنا أمة قوية متحدة صدرت العلم والمعرفة إلى مشارق الأرض ومغاربها والفرقة المعنية هنا الانحراف الفكري عن عقيدة الإسلام الذي يلقي بظلاله على جميع نواحي الحياة ولسنا بعيدين عن نتائج هذا الانحراف فقد عانى بلدنا في العامين الماضيين من أحداث كثيرة نتيجة هذا الغلو والتشدد من فئة حاقدة ضلت سواء السبيل فعاثت بالفساد وسفكت دماء العباد .
تجتمع هذه الصور والمشاهد مع ما في أذهاننا من تصورات حول الصدر الأول من الدعوة وكيف كانت الوحدة بكل معانيها من وحدة العقيدة ووحدة الصف والتآخي والتضحية سببا في قوة مجتمع المسلمين ثم كيف كانت الأخلاق النبوية نبراسا يضيئ للمسلمين طريقهم على مر العصور فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل ما عانى قبل الهجرة من أذى مشركي قريش الذين كالوا للمسلمين أنواع العذاب والتنكيل رجع إلى مكة المكرمة فاتحا فعفا عنهم وقال اذهبوا فأنتم الطلقاء.
إن أزمتنا اليوم ليست اقتصادية فقط بل أزمتنا اليوم أزمة فكر وهي التي ينبثق عنها جميع الأزمات، فَتَشتُتُ الفكر وأعني هنا بالتحديد الابتعاد عن العقيدة الإسلامية يعرض البلاد والعباد إلى مخاطر أهواء المنحرفين ولنأخذ خوارج العصر مثالا واضحا على ما أقول فابتداء انحرافهم كان بالعقيدة عندما اعتنقوا بعض المعتقدات الفاسدة كتشبيه الخالق بمخلوقاته ووصفه بأوصاف لا تليق به سبحانه حتى غدت عقائدهم أشبه بأساطير اليونان والإغريق، أما المسلم الذي ينزه الله عن مشابهة الخلق وينزه الله عن الجسم والأعضاء والجهه والمكان اعتبروه معطلا فاستحلوا دمه وهكذا في بقية المسائل انطلقوا منها لتكفير المسلمين بدعوى أن من لم يكن على اعتقادهم فهو كافر حلال الدم ويكفرون بعض الناس لمجرد ارتكابهم للمعاصي أو عدم التزامهم ببعض السنن فتجدهم في كثير من الأحيان ينكرون أمرا مشروعا أو مستحبا لقناعاتهم التي تلقوها من رموزهم وأسلافهم بعدم جوازها فيجنحون إلى الغلو والتطرف ومحاولة تغيير هذا الواقع أو الاعتراض عليه ولو بالقوة وعندما يرسخ هذا الاعتقاد في قلوبهم لا يجدون حرجا في أنفسهم من قتل كل من تمكنوا من قتله من هذا المجتمع الذي اعتبروه مجتمعا جاهليا، ليس هذا فقط بل هم يعتبرون قتل هؤلاء المسلمين طاعة وقربة يتقربون بها إلى الله تعالى .
ما أحوجنا اليوم إلى مراجعة هذا الواقع ووضع الحلول له من خلال دراستنا لأسباب القوة والوحدة في تاريخ أمتنا الزاخر بالتجارب والعبر بدءا من سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من بعده مرورا بسيرة السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي والدور الفكري الذي قام به في توحيد المجتمع على العقيدة السنية وترسيخ منهج أهل السنة في مصر والشام إلى سيرة السلطان محمد الفاتح لوجدنا في كل ذلك خطة متكاملة لنهضة علمية وفكرية جديدة فالدور الذي قام به السلطان صلاح الدين لم يكن على المستوى العسكري فقط بل كان مهتما بالجانب العلمي حيث كان يأمر المأذنين أن يرددوا متون علم العقيدة على المآذن حتى ترسخ في قلوب الناس سنوات طويلة وصحة الإيمان وقوته في قلوب المسلمين هو أهم سبب من أسباب نصر السلطان صلاح الدين حتى جعل الله فتح بيت المقدس على يديه والذي ينظر في أخبار ذلك الزمان يجد تشابها كبيرا مع وقتنا الحاضر لذلك حبذا لو يفرد في بعض المناهج المدرسية والجامعية فصولا خاصة تجمع مثل هذه الأبحاث التفصيلية ليستفيد منها طلاب العلم ويكون لديهم تصور واضح عما يدور حولنا من أفكار ومعتقدات وإلا سيكون أبنائنا عرضة للتأثر بأمواج فكرية هدامة غرضها فصل هذه الأجيال عن تاريخنا وعن حضارتنا ، نسأل الله أن يعيد هذه الذكرى العطرة على أمتنا ووطننا وقد تحسن الحال وأن يهيأ لنا أسباب النصر والوحدة من جديد إنه على كل شيءٍ قدير وكل عام وأنتم بخير.