مع نهايات القرن الماضي، شهد العالم تطورا ملموسا، تجلى مع ظهور الشبكة العنكبوتية، مما جعل الإنترنت متاحا لجميع من يعيش فوق سطح هذا الكوكب، وبات كل شيء حاضرا ومتوفرا لرواد ومتصفحي الإنترنت، إن كان خيرا أم شرا، رزينا أم سخيفا، جاذبا أم منفّرا، ولك أن تضيف ما تشاء...
الإهتمام بالإنترنت لم يعد أمرا شكليا أو عابرا، إنما أصبح كالإدمان من الصعب الإقلاع عنه، فعند احتجابه وزواله، يصاب المرء بالإضطراب والفوضى، تماما مثل الإحساس الذي يداهم المولعين بالمخدرات حال غيابها، كما بات يسهم في دفع الكثير من الأشخاص إلى الفرار من عالمهم الواقعي المكتظ بالتناقضات والمشاكل إلى العالم الافتراضي.
أصبحنا على ارتباط واتصال دائم ومستمر مع أرضين، الأولى حقيقية والثانية وهمية، ونعيش حياتين، إحداهما واقعية، والأخرى إفتراضية موجودة على الهواتف النقالة، أو الآيباد أو الكمبيوتر، وتتولى المؤسسات الكبرى إنتاج هذا الوهم والترويج لهذا الإنتهاز وبيع هذا الإفتراء! ثم تجني أرباح طائلة تصل إلى مليارات الدولارات.
العالم الافتراضي المُبْتكَر والمُستحدَث، المتصاعد الذي يزدهر بكيفية سريعة وخطيرة، بات الشغل الشاغل للمؤسسات العملاقة المنتجة لأدوات هذا العالم، حتى أصبحت تلك المؤسسات تتهافت حول إنتاج أدواته، وسبل اقتحامها لهذا العالم، بأسهل الطرق وأقل الإمكانات، بعد أن أصبح المستخدم يُسرف ويُفرط في الولوج إلى الأرض الإفتراضية، باعتبارها معقلا لإنجاز وتحقيق ما أخفق في تحقيقه على الأرض الحقيقية.
صناعة الوهم الإقتصادي، وهذا العالم الإفتراضي، بات ركنا أساسيا من اقتصاديات العالم، بل أصبح جزءا من الحروب الذكية، فقد سبق لوزيرة العدل الإسرائيلي أيليت شاكيد أن قالت : إن اسرائيل أصبحت من زعماء القوى العظمى في الانترنت، ليس فقط من جانب الأعمال، بل حتى في نظرية الحرب الالكترونية، بمعنى إن أرادت الدولة أن تكون قوية ينبغي أن تمتلك قوتين معا، قوة واقعية وقوة إفتراضية.
اصبح معدل وجودنا على الأرض الحقيقية، أقل بكثير من معدل وجودنا في الأرض الثانية، واصبحنا في حالة تعرف بحالة ما بعد المجتمع، فتجد الأسرة مبعثرة هنا وهناك على مواقع التواصل الإجتماعي، تلتقي لكن دون اتصال، يجلسون معك لكنهم ليسوا معك، دون تماس حقيقي مع الآخرين، بل ربما إلى قطيعة، والمجتمع بمعنى الحوار والنقاش بات غائبا ومفقودا... وأصبح كل منا يقطن في الأرض الثانية أو العالم الإفتراضي.
لكن علينا أن نعترف بأن هذا العالم الإفتراضي أصبح حقيقة، وأصبحنا مقيدين ومكبلين ومعتقلين في سجن رقمي، تستولي علينا هواتفنا ولوحاتها الالكترونية، تستخدمنا بعد أن كنا نستخدمها، وتستأثر بنا بعد أن كنا نستأثر بها، أصبحنا داخل زنازين فردية قضبانها شاشات أجهزتنا الإلكترونية، فهل تم استدراجنا إلى مصيدة غريبة، ثم ما لبثنا أن سقطنا في عالم رقمي؟ هل خرجنا عن السراط وضللنا طريق العودة؟ هل من سبيل للخروج من هذه المحنة وهذا المأزم والمأزق؟
ينبغي أن نُقر بأن هذا الأمر أصبح للأسف واقع، ومثلما تحدثت الوزيرة الإسرائيلية عن قوة اسرائيل العظمى على الانترنت، وسعيها لتعزيز مكانتها كقوة رقمية كبيرة في العالم، فقد باتت القوة الإفتراضية ضرورة لتحقيق الرفاه الإقتصادي من جهة، وتوظيف هذه القوة لخدمة الأهداف السياسية للدولة من جهة ثانية.
نحتاج ان تكون هناك قوة عربية كبيرة في الأرض الثانية، فهل ننجح في ذلك بعد أن أخفقنا في أن نكون قوة كبيرة على الأرض الأولى؟