تغريد حكمت: قراءة حضارية في مفهوم "القضاء"
يوسف عبدالله محمود
08-09-2018 03:38 PM
بقدر الكدّ نكتسب المعالي ومن طلب العُلى سهر الليالي
بين يدي كتاب نفيس في مادته مؤلفته استاذة قانونية متميزة بجدّها وما حباها الله من موهبة وذكاء وقّاد استطاعت ان تتبوّأ اعلى المناصب في القضاء. حظيت بأن تكون اول امرأة تتولى القضاء في وطنها الاردن وهي من اسرة عُمُدُها قانونيون كبار. ولعلمها الغزير اختيرت للعمل في المحكمة الجنائية الدولية، فكانت أول عربية ترأس القضاء الجنائي الدولي بكفاءة واقتدار.
العين الاستاذة تغريد حكمت أهدت المكتبة العربية كتابها "القضاء علم وفن وفهم" وهو بحق كتاب يتحدث بموضوعية عن قيم وتقاليد القضاء على نحو فريد وبحسٍّ انساني.
تغريد حكمت صَدّرت مقدمة كتابها بهذه المفردات الممتلئة: "العدالة نوعان: عدالة السماء وعدالة الارض. عدالة السماء مطلقة لا حدود لها، وعدالة الارض نسبية وَعُرضة للخطأ والصواب، والقاضي هو يد العدالة السماوية على وجه الارض" (المرجع السابق ص 11).
كلمات عميقة الغور واسعة الدلالات تبحث عمن يطبقها بشجاعة وجسارة في زمن كثر فيه التغول على الكرامة الانسانية للشعوب.
مؤلفة الكتاب حرصت الا تمر مرور الكرام على تقاليد القضاء وادبياته، بل تناولتها بمنهجية غير مسبوقة، تُحذر من الاخطاء قبل وقوعها، تفعل ذلك بعين لماحة متنوعة الاهتمام ترفدها ثقافة واسعة.
فن القضاء –في نظرها- يحتاج الى دُربة. "لا يكفي ان يكون القاضي مُلماً ببعض المعارف القانونية" فحسب، هناك الخبرة والتأمل.
يشتمل الكتاب على خمسة ابواب هي:
- فن القضاء وآداب القاضي
- رؤية لتطوير القضاء
- مفهوم المحاكمة العادلة وضماناتها.
- العقوبات البديلة.
- صور التعذيب بين الواقع والقانون.
ركزت المؤلفة على ضرورة ان يكون القاضي عدلاً، مستقيماً واسع الصدر متمكناً من العلوم القانونية، بعيداً عن السياسة "لأنه اذا دخلت السياسة حرم القضاء، خرجت منه العدالة".
وهنا اتساءل: هل الواقع العربي المعاصر بصفة عامة يطبق هذا الشرط؟
تغريد حكمت في كتابها تدعو الى ان يواكب الاصلاح السياسي اصلاح وتطوير قضائي يساير التغييرات السريعة التي تحدث في العالم. منطق سليم لو تتم مراعاته اليوم!
ان التطوير القضائي –كما تقول- هو الذي يرسخ "ثقافة النزاهة". "اذا فقدنا ثقتنا بالقضاء فقدنا كل شي وانتقلنا من عالم تسودة قوة القانون الى عالم يسوده قانون القوة وشريعة الغاب" (المرجع السابق ص 60). وما اشقى عالماً تسوده شريع الغاب!
وللاسف فإن "ثقافة النزاهة" في عالم اليوم تبدو مُضطهدة حتى على المستوى الدولي، فالمعايير المزدوجة يتم فرضها من قبل جبابرة هذا العالم، واكبر مثال على ذلك "القضية الفلسطينية" فالحق الفلسطيني في ارضه واضح وضوح الشمس، ومع ذلك يتم طمسه!
تتطرق المؤلفة الى مفهوم "العقوبات البديلة" داعية الى تفعيلها تجنباً لتطييق "العقوبات السالبة للحرية". اما الهدف من "العقوبة البديلة" فهو "اصلاح المتهم وزجر الاخرين أي الردع العام والخاص".
وفي استعانتها بالشريعة الاسلامية تقول المؤلفة "وفي الشريعة الاسلامية نجد انها عرفت العديد من انماط العقوبات والتي تقع في عصرنا الحديث تحت مسمى العقوبات البديلة، مثل "الكفّارة" عقوبة لاقتراف بعض الانماط السلوكية مثل الإفطار عمداً في شهر رمضان والحنث باليمين والقتل الخطأ بصيام شهرين متتاليين بعد دفع ديّه الخطأ كعقوبة تعزيزية بديلة. (المرجع السابق ص 114).
بالطبع، العقوبة البديلة تقتصر على الجُنح والجرائم الصغيرة.
تغريد حكمت في كتابها تنتصر للعدالة الانسانية في اي بقعة من بقاع العالم. تطالب بِ"أنسنة" هذا العالم المكتوي بالحروب والنزاعات. تدين "جرائم التعذيب" وتطالب بمحاكمة مرتكبيها. تراجيديا قابيل وهابيل يجب الا تتكرر!
جرائم التعذيب "تُناقض الاعلان العالمي لحقوق الانسان (1948) الذي ينص في المادة الخامسة على انه لا يجوز اخضاع أحد للتعذيب ولا المعاملة أو العقوبة القاسية أو غير الانسانية أو التي تمسّ بالكرامة".
وبعد، ان كتاب "القضاء علم وفن وفهم" الصادر حديثاً يعد مرجعاً للقضاة من ابناء هذا الوطن يضيء امامهم الدروب اذا ما وقعوا في هذا الاشكال او ذاك. يفتح العيون على ادبيات القضاء النزيه.
تغريد حكمت انجزت كتاباً حضارياً بامتياز في مجال القضاء،"يرشد ويعلم ويُحصِّن، داعياً كل قاض ان يتحلى بالشجاعة وان يكون "انساناً" يطبق العدالة دوماً.