أسوأ ما قد يعانيه المرء، عجزه عن النوم. فتحت عيناي على هذا اليوم المدعو بالجديد، وددت إغماضهما مجددا، لكن لم يسعني ذلك. هل سيكون مِن الخطر التجول في ساعات الصباح الأولى في هذه المدينة؟ الجميع يدعي أن ما من خطر في ذلك! لست واثقة من شيء. لكن لم الخوف ومم؟ فأنا لم أعد أخشى أحدا ولا شيئا. حتى الموت فقدَ سطوته على نفسي. غياب الشعور بالحياة وحده ما يرهبني.
أتابع مسلسلي "طريق" و "ناركوس". أعشق "جابر" وأتعاطف بشدة مع "بابلو إسكوبار". أي عبث هذا الذي يمارسانه عقلي وقلبي!
ألتقي نفس الأشخاص، ونتحدث في نفس الأمور. ها هي تلك التي تصطنع النشوة لترضي الرجل الذي ينام بجوارها كل ليلة لأنها مقتنعة بأن الملائكة ستلعنها إن لم تفعل! وتلك التي تعيش في برجها العاجي ولها لكنتها الخاصة الأقرب إلى لكنة صفية العمري في ليالي الحلمية. وأخرى عادت للتو من إجازتها من باريس وها هي تحدثنا في كل لقاء عن المكان والحياة وكأنها باريسية المولد! وتلك التي تشغل وظيفة مرموقة، ولها زوج وسيم متيم بها، يثير شفقتها لشدة حبه وخوفه عليها فهي لا تنفك تثير رغبة الرجال وحسد النساء.. أيهذا المسكين! وتلك التي ترى في نفسها أنموذجا للمرأة المضطهدة، تبكي واقعها بكلمات بائسة مقتبسة من أحاديث البرامج التلفزيونية التافهة. وتلك التي تشاركنا كل لحظات حياتها مع مولودها الأول بجميع تفاصيلها حتى المثيرة للقرف منها! وهذه التي يسيطر عليها هاجس وحيد، يقض مضجعها، "لم هجرني زوجي"؟ نفس الأشخاص... لا جديد، أقترح تغيير مكان اللقاء في محاولة بائسة لأبرهن لنفسي أن الحياة لا تزال مشوقة.
تنظر إليّ صديقتي، تباغتني بسؤال: لارا؛ هل أخبرك أحد من قبل أنك هادئة جدا؟ أجيب بابتسامة تخلو من الدهشة: أظن ذلك. تردف قائلة: لا، لارا هدوئك مستفز.. لا انفعالات، لا ردود أفعال... ما من شيء يثير دهشتك!! ابتسم مجددا وأقول: ربما! تقلدني وتجيد تقليدي، يوافقها الجميع ويواصلون تحليل شخصيتي. أما أنا فقد كنت أراقب كلبا يلهو مع صاحبه، وتذكرت تلك السيدة، حين عبرت لها قبل أيام عن رغبتي باقتناء كلب، فعيرتني بولدي الإثنين، وأنشأت قائلة: "ناس آخر زمن، بطلوا يخلفوا وبدهم يربوا كلاب"! أذكر بأنني أجبتها بهدوء تام: نعم سيدتي، أنا هم، أولئك الناس الذين ذكرتهم، "بطلت أخلف"، وسأربي ولديّ وثالثهم كلبهم!
أزور قبر ستي لأول ولآخر مرة بعد غيابها. ستي تلك المرأة التي كانت تشبه حلاوة الحياة في دالية شقت عروقها صخر قرى القدس وتدلت قطاف العنب منها في عٓمّان.. هدوء صارخ يعم المكان، الكل نيام! وستي لا تشعر بي. من ذَا الذي يزعم أنهم يدركون ما جرى لهم، وما يجري في غيابهم؟ من ذَا الذي يزعم أيضا بأنهم قد يبتسمون لنا حين نزورهم؟ واهمٌ هو من يعتقد ذلك! أحدق في شاهد قبرها، شيء يشبه الضباب أتى على تاريخ وفاتها، لم أره!
أية حياة هي هذه التي لو استعرضناها من أولها وحتى آخر لحظاتها، لكانت مثل نَصّ معقد فيه شيء من الجنون وغرابة إلى حد لا يحتمل والكثير من الخطوط المتعرجة التي أثرت فينا حتى صيرتنا كما نحن اليوم، ولو كانت غير ذلك لكنا أيضا غير ما نحن عليه !أي أناس هؤلاء الذين يعيشون في خوف دائم من فقدان شيء؟ وكيف يمكن لمجموعة من الأفكار والعادات الموروثة أن تستعبد الإنسان لتصبح مبررا لخوفه؟ وإلى متى سنبحث عن المواساة في عذابات الآخرين؟ وأنا ما الذي مالذي أفعله هنا؟
حملت لي الريح صوت رجل.. كان الصوت قريبا.."الزمن كفيل بالنسيان وقد يكون كفيلا بتصويب الأمور..، صدقيني"! كان يجلس أمام قبر بدا حجمه أصغر من بقية القبور، ربما كان قبرا لطفل صغير! أومأت له بالرفض... قد تبدو جملتك منطقية يا سيدي، إنما في ظروف خاصة. لأن الزمن في حقيقة الأمر، برهن لي وعلى الدوام أنه كفيل بجعل الأمور أسوأ!