لا يمكن للافراد ان يصنعوا اخلاقهم بايديهم، فالاخلاق ليست قوالب جاهزة تولد مع الناس، وانما هي افراز لظروف المجتمع واحواله، وكما ان للحرية اخلاقها،وللاستبداد اخلاقه، فان للغنى والفقر اخلاقهما ايضا..(هناك-بالطبع فرق بين اخلاق بعض الاغنياء او الفقراء وبين اخلاق الغنى والفقر بشكل عام).
هنا يبدو سؤال الفقر الذي ينشغل الكثيرون بابتداع الاجابة عنه او الاجتهاد في مواجهته مفهوماً حين يفتح احدنا ملف حاجات المواطن، او حين يلتقط ما يصدر من ذبذبات تختزل ما نعانيه في البحث عن الرغيف او العيش بصوره المختلفة، لكن الحقيقة ان ما يريده المواطن ( الانسان : ادق) يتجاوز هذه الأساسيات والضرورات الى ما سبق وأشار اليه فقهاؤنا من تحسينات وكماليات، وهي - بالتأكيد، لا تتعلق بالرفاه، وان كان مطلوبا، وانما بنوع آخر من الضرورات الاجتماعية التي تتعلق بالحرية والديمقراطية والشعور بالكرامة الوطنية والعدالة وغير ذلك من الحقوق التي من شأنها ان تحقق أمنه الاجتماعي وثقته بوطنه والتزامه بمسؤولياته وواجباته تجاه مجتمعه والاخرين، وهي وان كانت ضروات « اليد العليا» التي لا تسأل الناس الحافا وضرورات هذا العصر الذي باتت فيه هذه القيم من مكتسبات الانسان وحقوقه المعتبره فانها ايضا من مقاصد ديننا وتعاليمه السامية.
ليس هذا تنظيراً في اطار التنمية الشاملة التي يجري الحديث عنها باستمرار، ولكنه مجرد تذكير للذين يحاولون ان يختزلوا هموم المواطن وحاجاته وما يفكر به في مربع العيش والضرورات الانسانية فقط، ومع أنني ادرك ان الظروف الصعبة التي نمر بها تدفع البعض الى خفض مستوى مطالبهم ورغباتهم وحصرها في دائرة مواجهة الفقر، الا ان ثمة انواعاً اخرى من هذا الفقر لا بد ان تدرج في هذا السياق: الفقر السياسي والفقر الاجتماعي والاعلامي والفكري..
فقر المواطن الى المعلومات والشفافية في اتخاذ القرار، فقر الناس الى الروح الوطنية والمعنوية، فقر الشارع الى مؤسسات ونخب قادرة على توجيهه وقيادته، فقر المجتمع الى افكار وابداعات تساعده في الخروج من صمته وانكساراته، فقر القرارات والمقررات الى المنطق والاقناع والتأثير، فقر الحكومات الى ادوات الوصول الى الناس، وفقر الخطاب السائد، بمصادره المختلفة، الى الواقعية والصواب ايضاً.
تحتاج الانسدادات الاقتصادية احياناً الى وقت ما لاعادة فتحها ومعالجتها او محاصرتها، ويتحمل المواطن احياناً اضطرارات حكوماته الى اتخاذ القرارات الصعبة والعمليات الجراحية المؤلمة، لكن لا يجوز ان يتزامن هذا الانسداد مع انسدادات اخرى في السياسة او الاعلام او الفكر، ولا يبدو مفهوما - ايضا - ان يتركز انشغالنا في اولوية واحدة مهما كانت مهمة، ولا في دائرة التشخيص والشكوى ولمطالبة فقط، والمطلوب ان ننطلق من هذه الدوائر الضيقة الى مجالات اوسع تجيب بالفعل عن سؤال: ماذا يريد المواطن، وبماذا يفكر، وسؤال المواطن - هنا - اختصار او رمز لسؤال البلد، بمعنى: ماذا يريد الوطن حقاً، وما هي اولوياته، وهل الازمة التي يعاني منها اقتصادية بامتياز، ام انها تتجاوز الاقتصاد الى غيرها؛ السياسية والاجتماعية.. الخ.
الدستور