التطور التكنولوجي والثورة الصناعية الرابعة والتجربة الاماراتية
السفير الدكتور موفق العجلوني
06-09-2018 03:04 AM
طالب الدكتور جمال سند السويدي مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، بتاريخ ٢٠/٣/ ٢٠١٤ اي قبل ما يزيد عن ٤ سنوات و نصف أن تشارك الدول العربية في الجدل والنقاش العالمي حول الأبعاد الأخلاقية والقيمية للتطورات التكنولوجية في عدد من القطاعات الهامة مثل الصحة والأدوية والدفاع والتقنيات الحيوية والهندسة الوراثية و انعكاساتها على المجالات البيئية و الاقتصادية و السياسية و الامنية ، جاءت هذه المطالبة في اعقاب اختتام فعاليات المؤتمر السنوي التاسع عشر لمركز الامارات للدراسات و البحوث الاستراتيجية بعنوان " التكنولوجيا: التأثيرات والتحديات والمستقبل " ً.
وشدد الدكتور السويدي في حينه على ضرورة إعادة التفكير في كثير من الأمور من أجل استيعاب ما يدور من حولنا في العالم العربي، إذ أن فهم المستقبل يتطلب أولاً أن نعيد تقييم مداركنا حول الواقع التكنولوجي وصولاً إلى بناء رؤية واضحة تدعم المسيرة المستقبلية للدول العربية نظراً لوجود تحديات هائلة أمام مخططي السياسات وصانعي القرار، الامر الذي يحتاج الى تعزيز المعرفة كمّاً ونوعاً للحاق بالتقدم التكنولوجي ومواكبته والانخراط في ركب إنتاج التكنولوجيا من دون الاكتفاء باستيرادها واستهلاكها. اخذين بعين الاعتبار ان محور هذه المعرفة هو الانسان " الانسان أغلى ما نملك “وهو الذي يتحكم في وتيرة هذا التطور وطرق الاستفادة منه، ومن ثم فإن أولوية الاستثمار في تنمية مهارات رأس المال البشري تظل العامل الفيصل في هذه المعادلة الاستراتيجية، فالإنسان هو الثروة الحقيقية في عصر الإبداع والابتكار، والتراكم الهائل للمعرفة، حيث تزداد شراسة التنافس العالمي حول العقول التي بكل اسف بدأت تهاجر عالمنا العربي.
وبالتالي يجب التنبيه إلى التأثيرات الناتجة عن اتساع الفجوة بين التقدم والتخلف التكنولوجي، وهي فجوة تتسع بمرور الوقت بشكل غير مسبوق، ولا تبذل الجهود الكافية ليس في عالمنا العربي فحسب بل في العديد من دول العالم.
ويضيف الدكتور السويدي قائلاً: إذا كانت الصراعات العالمية في الكثير من تجلياتها الراهنة ذات طابع اقتصادي محض، فإنها في الحقيقة تعود إلى تفاوت القدرات التكنولوجية بما في ذلك مقدرة الدول على الانخراط في آليات العولمة وتعزيز مقدرتها على التعامل مع ما تنطوي عليه من فرص وتحديات، وتطوير استجابتها للمتغيرات المتسارعة في هذا الشأن، فالمعرفة باتت مصدراً للثروات، ولاسيما ما يتعلق بشبكات المعلومات الدولية التي باتت توصف بأنها الجهاز العصبي الجديد لكوكبنا.
يبدوا ان موضوع التقدم التكنولوجي الذي يشغل بال العالم يلقى ايضاً اهتماما مستداماً لدى الدكتور السويدي، فقد طالعنا قبل يومين بمقال في صحيفة الاتحاد بعنوان: " التطور التكنولوجي والثورة الصناعية الرابعة “، حيث تناول بتسلسل تاريخي الثورة الصناعية الاولى والتي انطلقت في القرن الثامن عشر، حينما عرف الإنسان كيف يستخدم البخار في توليد الطاقة وتشغيل المحرك.
ثم جاءت الثورة الصناعية الثانية مع اختراع الكهرباء في بداية القرن العشرين، ولذلك يمكن أن يطلَق عليها اسم ثورة الكهرباء. ثم تبعها الثورة الصناعية الثالثة، ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
وها نحن الان نعيش الثورة الصناعية الرابعة بإرهاصاتها الأولية، والتي يطلَق عليها الثورة الرقمية " Digital Revolution “، وأهم ملامحها: الطباعة ثلاثية الأبعاد، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات العملاقة أو الضخمة، والروبوتات، والحوسبة السحابية، والتنافس بين الإنسان والآلة، وغيرها من المظاهر والتجليات التي ظهرت إلى العلن، وتلك التي لم تظهر بعد.
ويضيف الدكتور السويدي في مقاله قائلاً: إذا كانت الثورات الصناعية السابقة قد أحدثت تحولات جذرية في المجتمعات في العالم على المستويات المختلفة، فإن التحولات التي أحدثتها الثورة الصناعية الرابعة أكبر من القدرة على التصور أو التخيل، لأن تطوراتها سريعة بشكل غير مسبوق، ومضامينها أقرب إلى الخيال، حتى إنه يمكن أن يطلق عليها اسم ثورة تحويل الخيال إلى واقع.
وبالتالي فإن المستقبل يحمل الكثير من التطورات المقبلة التي ربما تكون أكبر بكثير ممَّا رأيناه او نتخيله وهذا يعود إلى سبب أساسي هو أن المعرفة تتزايد وتتراكم يوماً بعد يوم بشكل غير مسبوق لأن هذه الثورة تتميز بالسرعة والعمق بما لا يقارن بأي مرحلة من مراحل التطور الصناعي في تاريخ البشرية
وقد خلص الدكتور السويدي في نهاية مقاله الى القول ان هنالك فجوة حضارية في مجال التكنولوجيا والثورة الصناعية الرابعة بين العالم العربي والدول الأخرى، وبالتالي يجب التنبيه الى بعض الامور الهامة التي يجب ان يلتفت اليها في عالمنا العربي:
اولاً : أن الكثيرين في العالم العربي ينظرون إلى الثورة الصناعية الرابعة، وما تحمله من اختراعات ومنجزات، نظرة تكنولوجية فقط، ويستغرقون في هذا الجانب بشكل كبير، في حين أن هذه الثورة تنطوي على الكثير من الجوانب والأبعاد الأخرى التي من الخطير جداً إهمالها أو تجاهلها، لأن هذه الثورة لا ترتب تحديات تكنولوجية وعلمية فقط بالنسبة إلى العالم العربي والكثير من دول العالم، وإنما تحديات ومشكلات اجتماعية وثقافية وقانونية وغيرها ، لأنها تخلق أوضاعاً جديدة تضرب الكثير من المسلَّمات القائمة، ومن ثم تحتاج إلى أطر ومناهج ونظم وتشريعات جديدة للتعامل معها و خاصة الجانب القانوني ...!!!
ثانياً على المستوى الاجتماعي والثقافي والأمني، فإن الثورة الصناعية الرابعة تطرح الكثير من التساؤلات، اذ كيف ستؤثر الثورة الصناعية الرابعة في منظومات القيم بالمجتمعات المختلفة؟ وما تأثيرها في مجال الأمن؟ وما تأثيرها في طبيعة العلاقات بين البشر؟ وغير ذلك من التساؤلات التي سوف تطرح نفسها بقوة خلال الفترة المقبلة.
ثالثاً: ليس هناك رؤى واضحة للتعامل مع منتجات الثورة الصناعية الرابعة ومنجزاتها في الكثير من الدول العربية، فالجميع يتحدث ويحذر وينبه، لكن لا أحد يفكر بجدية في التعامل مع هذه الثورة التي لا يمكن إيقافها أو إبطاء اندفاعها نحو الأمام بسرعة غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن العالم العربي، في مجمله، يواجه معضلة في التعامل مع الثورة الصناعية الرابعة، سواء على مستوى البنية التحتية أو الفكر أو الرؤية الاستشرافية، فإن هناك بعض الدول العربية التي تبدي إدراكاً وفهماً عميقَين لمسار التطور في هذه الثورة التكنولوجية، وتستعد للتعامل معها، والانخراط فيها، واستشراف مستقبلها.
ومن هذه الدول دولة الإمارات العربية المتحدة التي أدركت منذ وقت مبكر طبيعة التغيرات الصناعية والتكنولوجية في العالم، وعملت وتعمل على التعامل معها من خلال رؤى استراتيجية وأطر مؤسسية واضحة، حيث أنشأت «مجلس الثورة الصناعية الرابعة»، و«مجلس علماء الإمارات»، وأطلقت «بروتوكول الثورة الصناعية الرابعة»، بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2017، والذي يشتمل على ثلاثة محاور هي: توفير بيئة متكاملة وآمنة للبيانات، وصياغة سياسات وتشريعات الثورة الصناعية الرابعة، وبناء منظومة قيم وأخلاقيات الثورة الصناعية الرابعة.
إضافة إلى الخطوات المهمة التي تم اتخاذها في مجال تطوير التعليم بصفته المدخل الحقيقي والأساسي إلى التقدم والانخراط الفاعل في الثورة الصناعية الرابعة بكل جوانبها وأبعادها، ومنها: استراتيجية وزارة التربية والتعليم 2010-2020، واستراتيجية التعليم العالي 2030، واستراتيجيات تطوير الكوادر البشرية المواطنة، وإعداد أجيال المستقبل للتعامل مع متغيرات عالم الغد على مستوى التعليم والوظائف والخدمات وغيرها.
وهكذا استطاعت دولة الامارات العربية المتحدة، بفضل الاهتمام بالمواطن الاماراتي واستغلال كافة المقدرات الاماراتية في مجالات التقدم العلمي والتكنولوجي والتركيز على التعليم وانتهاج سياسات حكيمة وعقلانية وانفتاح على العالم، ان تكون انموذجاً للعديد من دول العالم سوآء في المنطقة او العالم بشكل عام في التعامل مع الثورة الصناعية الرابعة، وبالتالي فان العالم يمكن ان يستفيد من الخبرات الاماراتية او ان يحذو حذوها.