اوروبا إذ تفقد الثقة باميركا
د. هايل ودعان الدعجة
05-09-2018 12:27 PM
لقد ساهم انقسام معظم دول العالم بين معسكرين غربي تقوده الولايات المتحدة وشرقي يقوده الاتحاد السوفياتي خلال حقبة الحرب الباردة والثنائية القطبية في تعزيز معادلة التوازن الدولي ، التي يعود لها الفضل في فرض حالة من الاستقرار في المنظومة الدولية ، وحمايتها من الفوضى والانفلات طوال هذه الحقبة ، فيما لو فكر احد طرفي هذه المعادلة تجاوز حدوده باستهداف او الاعتداء على اي من اعضاء الطرف الاخر ، الذي يمتلك من القدرات والامكانات المادية ما يجعله قادرا على ردع ولجم المعتدي ، واعادته الى جادة الصواب ، تماهيا ومراعاة لحالة التوازن التي فرضت نفسها في المشهد الدولي . الا ان الامور سرعان ما تغيرت على وقع التغير الذي اصاب شكل النظام الدولي مع انتهاء الثنائية القطبية ، بانهيار الاتحاد السوفياتي ، وتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم ، بصورة جعلتها تتصرف بشكل احادي ، وبما يتماهى ومصالحها ، بحيث اخذت تعيث الفوضى وتهدد الاستقرار العالمي .
وما الاحداث الفوضوية التي تشهدها المنطقة على سبيل المثال ، اما تحقيقا لمصالحها وامنها ، واما انحيازا لمصالح الكيان الاسرائيلي وامنه ، الا خير دليل على ذلك ، بدليل غزوها افغانستان والعراق واثارتها النعرات العرقية والطائفية بين دول المنطقة وشعوبها . لتزداد الامور تأزيما وتعقيدا مع تولي الرئيس دونالد ترامب الرئاسة الاميركية على وقع خطاب شعبوي قومي ( تجاري ) ، مثل انقلابا على المنظومة القيمية الاميركية السياسية والاقتصادية والامنية ، وعلى هياكل المنظومة الدولية وقواعدها وادواتها ، بصورة اخذت تهدد الداخل الاميركي والنظام الدولي بالفوضى والخطر.
الامر الذي انطوى على رسالة تحذير قوية الى اطراف دولية فاعلة ومؤثرة ، قد تدفعها الى التفكير بضرورة إعادة النظر بالكثير من الحسابات والترتيبات والعلاقات الدولية ، التي قد تأخذ شكل تحالفات وسيناريوهات جديدة من اجل مواجهة التهديدات والتحديات الناشئة ، التي فرضتها حقبة الرئيس ترامب على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والامنية . ما جعل الامور مرشحة لاحداث تغيرات كبرى في شكل النظام الدولي ، والانتقال به من الاحادية القطبية الى متعدد الاقطاب ربما . فالولايات المتحدة لم تعد محل ثقة المجتمع الدولي في ظل سياساتها الفردية ، التي اساءت من خلالها للهياكل والمرجعيات الدولية التي يعول عليها في حفظ السلم والامن الدوليين ، وضبط حركة شبكة العلاقات الدولية ، وحمايتها من الفوضى والاستغلال .
حيث انسحبت من بعض الاتفاقيات والمنظمات الاممية ، واعلنت الحرب التجارية على الكثير من دول العالم ، وضربت بقرارات الشرعية الدولية بعرض الحائط من خلال نقل سفارتها الى القدس ، ومحاولتها الالتفاف على ملف اللاجئين الفلسطينيين وانهائه بوقفها لدعمها المالي للاونروا .
لقد تمثلت احد اهم ترجمات واوجه عدم الثقة هذه في الحليف الاوروبي تحديدا ، الذي يرتبط بالولايات المتحدة بعلاقات قوية ومتينة وفي مختلف المجالات ، ومنها التحالف الاميركي الاوروبي الغربي الامني والعسكري ، ممثلا بحلف شمال الاطلسي ( الناتو ) . وتتجلى ابرز صور فقدان الثقة الاوروبية بالحليف الاميركي في موقف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ، الذي طالب بضرورة اجراء مراجعة شاملة لامن أوروبا تشمل روسيا ، وريثة الاتحاد السوفياتي الذي قاد حلف وارسو الذي مثلت مواجهة تهديداته خلال الحرب الباردة الهدف الابرز من انشاء حلف الناتو ، والذي يرى الرئيس ترامب بانه قد عفا عليه الزمن . مطالبا دول اوروبا بزيادة مساهماتها الماليه في الحلف ، وان عليها الدفع لبلاده مقابل حمايتها .
ما جعل الرئيس ماكرون يطرح فكرة مد جسور التعاون العسكري والامني مع روسيا ( الاتحاد السوفياتي ) خصم وعدو الامس ، الذي كان يشكل الاخطر الاكبر والابرز لدول اوروبا الغربية .
في مقابل الاستعداد عن التخلي عن الحليف الاميركي ، الذي طالما استنجدت به هذه الدول الاوروبية لحمايتها من الاخطار والتهديدات الروسية ( السوفياتية ) حتى وقت قريب . ما يشي باحتمالية تغير التحالف الاوروبي الاميركي الى تحالف اوروبي روسي ، لمواجهة سياسات الرئيس ترامب التي اخذت تهدد استقرار العالم وامنه ، بما في ذلك اوروبا ، التي شعرت بان عليها ان تتولى الدفاع عن نفسها ، بدلا من الاعتماد على اميركا التي ولى زمن الاعتماد عليها ، وان التحالف معها في ظل الادارة الحالية ، يمثل نوعا من المقامرة غير المحمودة العواقب والنتائج . خاصة في ظل دعم الرئيس ترامب للتيارات والاحزاب اليمينية المتطرفة ، التي تسعى للانقلاب على المنظومة القيمية لدول أوروبا ، التي بات عليها الاستعداد لاجراء ترتيبات وحدوية تعزز من اعتمادها على ذاتها امنيا ومصالحيا . وسبق ان برزت توجهات اوروبية نحو تشكيل جيش موحد لتوفير مظلة امنية ودفاعية اوروبية مستقلة عن المظلة الاميركية ، لتعزيز قوة دول الاتحاد الاوروبي على خلفية التطورات والتغيرات التي طرأت في السياسة الاميركية ، ولتكون قادرة على مواجهة خطر تنامي قدرات روسيا العسكرية وتهديداتها ، واستعدادها للجوء الى الخيارات العسكرية لاستعادة مكانتها الدولية ،كما فعلت في جورجيا وشبه جزيرة القرم وشرق اوكرانيا وسوريا . دون ان نغفل وجود فكرة سابقة كانت تراود كل من المانيا وفرنسا تقتضي تشكيل جيش اوروبي موحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، لتشكيل قطب دولي مستقل ، وقوة دولية عظمى توازي القطب الاميركي . الامر الذي كانت تعارضة الولايات المتحدة وبريطانيا بحجة الخوف من تقويض حلف الناتو الذي يجب ان يكون ركيزة الدفاع عن اوروبا.
وان كان موقف بريطانيا المعارض له علاقة بتبعيتها وبعلاقتها الاستراتيجية بالولاياإ المتحدة ، وخشيتها من ان تهدد مثل و ذه الفكرة نفوذها في اوروبا ، خاصة بعد الاستفتاء على خروجها من الاتحاد الاوروبي.