يشهد العالم كله بدرجات متفاوتة معالم تحوّل مرحلي شامل تشبه إلى حد كبير تحول العالم إلى المرحلة الصناعية بعد أن غادرو المرحلة الزراعية والفلاحّية، وأصبحت الصناعة هي المعلم الأبرز من معالم النهضة العالمية التي اجتاحت القارات الخمس، وإن كان نصيب العالم الغربي هو الأكبر والأقوى ظهوراً بالمقارنه مع بقية أجزاء العالم الأخرى وماهو محل عناية المراقبين ما رافق عملية تحول العالم ابان النهضة الصناعية من تحولات اجتماعية عميقة، وتغيرات واسعة في النظم السياسية والاقتصادية، وانعكاس ذلك على مجريات التربية والتعليم والسكن والأمن والعمران البشري بكل تجلياته.
نحن اليوم ربما على أبواب تحول مشابه، نحو العالم الرقمي، فالعالم سوف يشهد ثوره هائلة وواسعة في المجال الرقمي الالكتروني، وسوف يصاحب ذلك تغيرات هائلة وعميقة في العلاقات الاجتماعية والتحولات الاقتصادية والنظريات السياسية، وسوف نشهد في القريب العاجل تغيراً مثيراً ومدهشاً في مجرى العلاقات والاتصالات، وطريقة الخطاب والتأثير، وانتشار الأفكار.
ربما يكون من مظاهر هذه التحولات العميقة، ما يعرف بظاهرة الشعبوية التي بدأت تجتاح كثيراً من المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء، التي برزت بوضوح على بعض نتائج الانتخابات التي جرت في بعض الدول الغربية مؤخراً، ويتم تفسير ذلك بسهولة أن الأجيال الجديدة فقدت صلتها بالنخب القديمة التي كانت تستأثر بالسلطة والنفوذ بطريقة صارمة وتتحكم بوسائط التواصل والتأثير وتحتكر المعلومة، بينما المرحلة الجديدة تشهد كسر عملية الاحتكار لوسائط التواصل والتأثير، وطرق الحصول على المعلومة والبيانات، وتولدت مراكز تأثير أخرى وظهرت خطابات أخرى ما كانت في الحسبان، فتغيرت تبعاً لذلك الاتجاهات الأكثر انتشاراً في أوساط الشباب والأجيال الجديدة، وسوف يظهراً قريباً الجيل الخامس من وسائل الاتصال الحديثة التي تتيح لكل شخص على البث وتوصيل الخطاب، ليصبح كل شخص وكالة أنباء ومحطة تلفزة شخصية في بيته، وتصبح الفروقات منحصرة في القدرة على انتاج المعلومة وإيجاد المضامين وابتكار المعاني، مما يؤدي حتماً نحو اللامركزية في علم الإدارة على صعيد الدول الكبيرة والصغيرة، وسوف يؤدي إلى خلق الفوضى الموجهة التي ستكتسح العالم.
لا سبيل أمام النخب الاّ التوجه نحو التكيف السريع مع مقتضيات مرحلة التحولات الجديدة، وفهم ما يجري ورصد متطلبات هذا التحول وتقديم خطاب جديد، وانتاج مضامين قادرة على الاجابة على أسئلة الأجيال، وقادرة على مخاطبتهم والوصول اليهم من خلال امتلاك وسائط الاتصال والقدرة على استعمال ادوات العالم الرقمي الكاسح.
السمة الأكثر خطورة وأثرا وإدهاشاً في تحولات العالم الرقمي هو السرعة الهائلة التي تتجاوز قدرة كثير من المجتمعات على مجارات هذه السرعة الكبيرة التي سوف تطوي الكسالى وأصحاب الاستجابة البطيئة.
الدستور