الرجل المناسب في المكان المناسب
د. فرحان عليمات
02-09-2018 05:05 PM
تطلق تلك المقولة عندما يتبؤا شخص ما وظيفة أو منصب، ويُرى فيه امتلاكه للمؤهلات العلمية والثقافية والأخلاقية التي تتناسب مع تلك الوظيفة أو ذلك المنصب الذي سيشغله، هذه المقولة تشبه لحد كبير ما ذهب إليه توفيق الحكيم في مسرحيته الناقدة "لكل مجتهد نصيب" ولكن ما قصده الحكيم يختلف تماما عمّا يفهمه كثير من الناس، إذ إن العنوان جاء للسخرية والتهكم، فبقدر الاجتهاد في الاحتيال والتظاهر بالاخلاص والجد يكون نصيبك من التقدير والترقية، وأن لا نصيب للمجتهد إلّا من خلال ذلك.
و مقولة الرجل المناسب في المكان المناسب في واقعنا العربي المعاش لم تختلف كثيرا عن سخرية الحكيم للواقع الذي رصده في خمسينات القرن الماضي، فبعد سبعين عاما من ذلك الواقع نرى إنّه يزداد مرارة وسوءا، ومن مشاهداتي الحياتية لم أرَ رجلا مناسبا لمكان مناسب إلا ما ندر، فمن تجربة عايشتها شخصيا وهي على سبيل المثال لا الحصر قبل خمسة عشر عاما حيث كنت أعمل بمعية مسؤول، وتوهمنا بداية إنه رجل مناسب، فكان تحت إدارته ما يقارب مائة زميل، وكانوا من محافظات المملكة كلها،ويعمل كل زميل منهم في محافظته وقرب سكنه، فأشار أحدهم على المسؤول أن يشتتهم بنقل كل واحد منهم إلى محافظة غير محافظته مع أن طبيعة العمل عادية جدا، أي لا مبرر للنقل، فما أن تمت حركة النقل حتى بدأت عشرات الواسطات من أعلى المستويات تنهال لإعادتهم إلى مناطقهم، فكسب ذلك المسؤول الأهمية التي سعى إليها وأعادهم إلى محافظاتهم، واستثمر ذلك للحصول على عدة امتيازات ومكتسبات دون وجه حق.
إن تداعيات ما يسمى بالربيع العربي وأن حملت في بوادرها أملا في التغيير، إلا أن خواتميها جاءت مخيبة للآمال فلم تبقِ رجلًا مناسبًا ولا مكانًا مناسبًا، وألقت تلك التداعيات بظلالها على المجتمعات العربية سواء التي شهدت أحداثًا دموية او التي شهدت تغييرات سلمية او التي تأثرت حكما من كليهما، ونتج عن ذلك زج الكثير من الفاسدين في مواقع المسؤولية الذين لا يملكون من الرجولة حظا ولا من الأماكن مقعدا، فقزموا وصغروا الاماكن لتناسب أحجامهم، فاصبحت مقولة (الرجل الفاسد في المكان المناسب) اكثر إيضاحا وبلاغة، ولمن يرى غير ذلك فعليه ان ينظر الى واقعنا العربي المرير هذه الأيام.
الرجل المناسب تقال عندما يتوسم الناس بالمسؤول خيرا، ويكون سقف توقعاتهم متفائلة جدا به ، لكن متطلبات الادارة والمسؤولية والوظيفة في المجتمعات العربية سرعان ما تغير حتى الرجل الصادق حقا، فتغيره عن مبادئه وقناعاته والخير الذي توسمه الناس به.
ان الوظيفة العامة او المسؤولية هي امانة دينية والتزام اخلاقي ومسؤولية قانونية، فقد قال تعالى :" وان حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل" والحكم هنا ليس القضاء فقط، وانما كل ما يتعلق بحقوق العباد، وقال تعالى : ":واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض". واطلق كونفوشيوس حكيم الصين العظيم قبل 2500 عام عبارته الشهيرة "عامل الناس كما تحب ان تعامل" ورأى ان الوظيفة العامة تتطلب الا نهتم لتولى المنصب ، بل نهتم لما يؤهلنا لهذا المنصب.
اما المسؤولية القانونية فلا شك ان البيئة التشريعية العربية وطبيعة الأنظمة العربية السائدة تحول دون تفعيل النصوص القانونية التي تجعل من الوظيفة العامة حاضنة للإبداع والتميز والكفاءة ، وتعزيز آمال المواطنين بالنزاهة والعدالة وتكافؤ الفرص وترسيخ سيادة القانون والمساءلة وزيادة الإنتاج، وانتهاج سياسة الباب المفتوح لسماع قضايا المواطنين ومشاكلهم وسرعة حلها، وان يعي المسؤول انه في خدمة الأوطان وقضاياها، لا ان يسخر الوظيفة لخدمته وخدمة أهوائه، وفي ذلك سنصل الى صحة مقولة الرجل المناسب في المكان المناسب والا سيبقى الفاسد يرتع في كل اماكننا.