تفكيك الأردن أم تفكيك إسرائيل ؟
ناهض حتر
01-06-2009 04:59 PM
وافق الكنيست الإسرائيلي، الخميس الماضي، في قراءة أولى، على اقتراح النائب الليكودي، آرييه ألداد، الذي يتضمن ضم مناطق الكثافة السكانية في الضفة الغربية إلى "دولة فلسطينية " في الأردن.
وقد نال الاقتراح موافقة 53 نائبا ، من بينهم ثلاثة وزراء من حزب العمل ، ما يعني حصول إجماع إسرائيلي يشمل اليمين المتطرف واليمين وقسم من الوسط و" اليسار" على أطروحة "الدولة البديلة" التي كانت تعبّر، لأشهر خلت، عن تيار هامشي في السياسة الإسرائيلية، تتزعمه أقلية " الإتحاد الوطني الإسرائيلي" قويّ الصلة بالمحافظين الجدد في واشنطن وبالجمهوريين في الكونغرس الأميركي. ولكنها ، الآن، تتظهّر كسياسة إجماع ، تحت تأثير خمسة عوامل هي :
(1) إتجاه إدارة الرئيس الأميركي ، باراك أوباما ، إلى إنتهاج سياسة تسويات في المنطقة . وهي سياسة سوف تضغط على تل أبيب نحو الموافقة على صيغة حل للقضية الفلسطينية من جهة ، وتضع إدارة أوباما ، من جهة أخرى، تحت ضغط اليمين الإسرائيلي الساعي إلى إنتهاز الفرصة واقتناص الحاجة الأميركية للتهدئة مع إيران ، للحصول على الحد الأقصى من المطالب الإسرائيلية للحل على المسار الفلسطيني،
(2) تحوّل أكبر دولتين عربيتين ، مصر والسعودية ـ وبسبب ذعرهما من أفول مكانتهما الإقليمية لصالح التمدد الإيراني والتركي ـ من أولوية حل القضية الفلسطينية إلى أولوية المواجهة مع إيران. وهو ما يضع الثقل الرسمي العربي ، موضوعيا، إلى جانب إسرائيل في رؤيتها لضرورة وحتمية الحسم مع الإيرانيين، ولجم السياسات الشرقية المستجدة لأنقرة . وتبدو القاهرة خصوصا أقرب إلى تل أبيب منها إلى واشنطن ، في قراءتها للمشهد الإقليمي وأولوياته،
(3) إتجاه الإنقسام الفلسطيني نحو التجذّر السياسي ـ الجغرافي بين مناطق الضفة التي تحكمها سلطة مقبولة إسرائيليا وعربيا ودوليا ، ولكنها ضعيفة للغاية ، ومستعدة للبحث عن مخرج بأي ثمن لوضعها القلق ، وبين غزة المدمرة المحاصرة التي تحكمها حماس المنبوذة والمتهمة ب" الإرهاب". وقد قرأ الإسرائيليون جيدا كيف شقّ ذلك الإنقسام صفوف الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة ، حين ظهر ، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في شتاء العام الماضي، أن المزاج السياسي الجماهيري في الضفة هو في أدنى حالات التضامن مع غزة المقاومة . وتُظهر استطلاعات الرأي، منحى خطير للغاية في هذا السياق ، يتجلى في إنخفاض نسبة مؤيدي حماس في الضفة إلى حوالي 24 بالمئة فقط ، بينما يتركز مؤيدوها في غزة . وهذا يعني تكريس إنقسام جغراسياسي ـ يدعمه العرب المعتدلون والأميركيون والأوروبيون ـ ويقود ، واقعيا، إلى تفكيك مطلب الدولة الفلسطينية الموحدة المستقلة. وهو ما تجد فيه إسرائيل فرصة ذهبية لعزل غزة وحماس ، وتأزيم السلطة باتجاه الإنفراط والإندماج في دولة أردنية يتم تغيير هويتها إلى فلسطينية ، وتشكل ملاذا للمشروع الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين،
(4) الوضع الإقليمي القلق للدولة الأردنية. فبينما كانت عمان مرتبكة وعاجزة ومشوّشة الرؤية، تتابعت التطورات الدولية و الإقليمية المتسارعة في نهاية 2008 ومطلع 2009 ، لكي تضع الأردن خارج المعادلة العربية . فقد وجدت عمان ، ركنيّ الاعتدال العربي يتركانها : مصر إلى تحالف غير مشروط مع إسرائيل ، والسعودية إلى مصالحة ـ ولو بطيئة ـ مع سورية. وبينما هي لا تستطيع أن تنقلب ـ بسبب ثقل العلاقة مع الشأن الفلسطيني ـ على سياسة أولوية الحل على المسار الفلسطيني لصالح التصعيد مع إيران ، فإنها لم تستطع، بسبب فقدان الخيال السياسي وتركيبة الحكم والارتباطات التقليدية مع الغرب ـ أن تقفز إلى المعسكر الآخر. وهو وضع حاولت الدبلوماسية الأردنية، الخروج منه بالإعراب عن استعدادها تقديم تنازل جوهري للإدارة الأميركية، يتمثل في التوطين السياسي للاجئين الفلسطينيين في الأردن ، والاستعداد للقيام بدور وكيل التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي والإسلامي. وبالنتيجة، أضعفت هذه التنازلات الأردنية المسبقة ، عمان ، وكشفتها أمام اليمين الإسرائيلي.
(5) إتجاه السياسة السورية نحو أولويّة ترتيب وضع سورية الإقليمي ، وتأكيد وحماية تحالفاتها ومصالحها الإستراتيجية ، بينما لا توجد لديها مصلحة مباشرة أو أدوات سياسية في الضفة الغربية ، وينحصر تأثيرها في الساحة الفلسطينية في حدود غزة البعيدة ، جغرافيا ، عن الشام ، والواقعة تحت قبضة مصر التي لا تريد دورا لسورية في ترتيب الوضع الفلسطيني. وهو ما يسمح لتل أبيب بتجاهل العامل السوري في إتجاهها نحو فرض حل صهيوني على السلطة الفلسطينية والنظام الأردني,
وعلى خلفية هذه اللوحة المتداخلة الخطوط والألوان ، يمكننا أن نفهم لماذا صعدت اطروحة أقصى اليمين الصهيوني حول الدولة الفلسطينية في الأردن إلى مجرى السياسة العامة الإسرائيلية ،ويمكننا أن نلاحظ كيف تخرج الأفكار، عندما تنضج ظروف إمكانية تحققها ، من بطون الكتب وجلسات النقاش وبيانات الأقلية ، إلى مشاريع قوانين وسياسات رسمية. ولذلك، نحن لا نتفق مع آراء بعض السياسيين الأردنيين الذين يرون في التصعيد الإسرائيلي " مناورة " ضغط على عمان لكي تلتحق بالمصريين في سياسة أولوية المجابهة مع إيران. بالعكس، نحن نرى أن الإلحاح الإسرائيلي على تلك المجابهة هو الذي يشكل مناورة ابتزاز جدية لتحصيل عدة مكاسب في وقت واحد (1) إحراج إدارة أوباما وإضعاف قدرتها على تقديم تنازلات جوهرية لصالح طهران ، (2) تجميد البحث في قضية الجولان وتحييد دمشق وحلفائها ـ تحت تهديد الحرب ـ عن التدخّل في مسار الحل الصهيوني في الضفة والأردن (3) انتزاع ترتيبات مؤاتية وبعيدة المدى من رام الله وعمان، في سياق أطروحة " الدولة البديلة ".
وقد تبدو هذه الأطروحة ، للوهلة الأولى ، متناقضة مع السياسة الرسمية ، الفلسطينية والأردنية. ولكن ، بالتدقيق، سوف نجد أن ذلك التناقض يكمن في الشكل والتفاصيل ، وليس في الجوهر، ما يجعل التفاوض ، بشأن حله، ممكنا. وهذا هو ، في رأيي، السبب الحقيقي لردود الطرفين الفاترة على أطروحة الدولة البديلة.
في واشنطن، أعلن رئيس السلطة الفلسطينية ، محمود عباس، خلال لقائه مجموعة من الباحثين والنشطاء السياسيين العرب واليهود الأميركيين، في مقر إقامته في فندق ريتز كارلتون ، أنه «يحمل مقترح سلام جديداً يعتزم طرحه خلال لقائه أوباما، يشمل عناصر من خطة خريطة الطريق التي طرحتها اللجنة الرباعية ومبادرة السلام العربية التي تبنتها قمة بيروت العربية في عام 2002».
ونقلت صحيفة الأخبار ( الجمعة 29 أيار 2009) عن مصادر مطلعة شاركت في الاجتماع إنه «يبدو أن هناك محاولة لتلميع المبادرة العربية وتحسينها، لتصبح ركيزة أساسية لأي مبادرة أميركية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وخصوصاً أنها تقفز عن الحق الثابت للاجئين الفلسطينيين بالعودة الكاملة لأراضيهم وممتلكاتهم والتعويض لهم تنفيذاً لقرار الأمم المتحدة الرقم 194».
وأوضح أبو مازن أنه «لن يطالب بعودة خمسة ملايين لاجئ فلسطيني إلى إسرائيل»، مضيفاً: «لن نقوم بتدمير إسرائيل». وأكد أن «السلطة الفلسطينية ستواصل تعاونها الأمني مع إسرائيل بغضّ النظر عن مستوى التقدم أو فقدانه في المفاوضات السياسية»، قائلاً إنّ هذا «في مصلحتنا وإسرائيل».
سقف مطالب عباس ، في لقائه مع الرئيس أوباما، محدد بالمطالبة بتجميد الاستيطان في الضفة الغربية . وهذا مطلب تفاوضي لا يتعارض مع الأطروحة الإسرائيلية ، بل يقع في سياقها . فحجم أراضي الضفة الذي سيتبع الدولة الفلسطينية في الأردن ، سيكون ، بالطبع، محل تفاوض شاق ومعقد، لكنه لا يتناقض مع جوهر الحل المقترح.
إقامة الدولة الفلسطينية في الأردن، لا تتناقض ، أيضا، مع مصالح نخب السلطة التي تجد نفسها أسيرة وقلقة على مستقبلها في كانتونات الضفة، بينما ينتظرها في عمان مستقبل سياسي مضمون بالحصول على موقع الشريك مع القصر الهاشمي في دولة ستجمع ، واقعيا، شتات معظم الفلسطينيين، وتشكّل عودة إلى وضع ما قبل 67 المستقر في صيغة المملكة الأردنية الهاشمية . صحيح أنها ليست بحدود ال 67 ولكنها ستضمن انقلاب الوضع الذي تمردت عليه فتح منذ ال65 ، أي سيطرة الهوية والنخب الأردنية على الدولة . سيكون الوضع الآن معكوسا لصالح الهوية والنخب الفلسطينية . هذه الدولة ستتيح للكمبرادور الفلسطيني كامل حصته وأفقا غير متاح في الضفة او غزة أو أي مكان آخر، لمراكمة الثروات والمصالح وتظهير القوة الإقليمية والدولية للرأسمالية الفلسطينية.
وفيما يتصل بموقف عمان ، فإن مبادرتها السلمية الملحاحة ، ليست بعيدة ، واقعيا، عن أطروحة الدولة البديلة . علينا أن نلاحظ هنا أن فلسطينيي الأردن ـ أو معظمهم ـ مواطنون أردنيون بالفعل. وما ينقصهم هو الحصول على كوتا سياسية في الدولة . وهي كوتا ستكون مطروحة على جدول الأعمال عندما تحدث التسوية النهائية ضمن التصوّر الأردني، أي دولة فلسطينية في كانتونات الضفة وغزة ، مقابل التوطين السياسي لفلسطينيي الأردن. لكن هذه الدولة الفلسطينية الموعودة لن تكون قابلة للحياة من دون نوع من العلاقة الفدرالية أو الكونفدرالية مع شرقيّ النهر. وعندما تكون نصف الدولة الأردنية في أيدي فلسطينيين مرتبطين مع الضفة، فإن اتجاه الأحداث سيكون واضحا .
الأسماء والأعلام والرموز الدولتية كلها يمكن إيجاد حلول لها عند شركة ساتشي آند ساتشي للدعاية والإعلان ، أما تفاصيل الحدود والقدس الخ ، فهي ، في كل الحالات موضع تفاوض . الجوهري في النهاية هو تسوية الوضع الفلسطيني واقعيا في إطار دولة قائمة وناجحة وتوطن أغلبية اللاجئين هي دولة الأردن. هنا ، تتقاطع المواقف الفلسطينية والأردنية ـ الرسمية ـ والإسرائيلية. وعلى هذا ، فنحن لا نتوقع ردود أفعال قاطعة من رام الله وعمان تجاه تل أبيب، إلا تحت الضغوط الداخلية.
تبقى هنالك أربع مشكلات تعرقل هذا الحل ، سواء أبصيغته الإسرائيلية الفجة أم بصيغته الأردنية ـ الفلسطينية المحلاّة . وهي :
(1) أن إسرائيل تريد تسليم مناطق الضفة للدولة الكفوءة إداريا وأمنيا ، تلك القائمة الآن في الضفة الشرقية . ولكن تغيير هذه الدولة في تركيبتها وهويتها ، سوف يفككها سياسيا وأمنيا. فالدولة ليست مؤسسات وإنما لحمة لها عصب وهوية وتعبّر عن كتلة اجتماعية لها مصالح متجانسة ـ ولو نسبيا ـ وعندما يتم تفكيك كل ذلك ، لن تكون هنالك دولة . التناقض هنا هو بين الحاجة للدولة الأردنية أمنيا ، والحاجة لتفكيكها سياسيا . وهو تناقض بلا حل.
(2) أن نخب السلطة الفلسطينية سوف تصطدم بنخب فلسطينيي الأردن الأكثر تطورا وتجذرا في البنية الاقتصادية والسياسية الأردنية ، وكذلك بالمعارضة الإسلامية حيث يُعد فلسطينيو الأردن من أقوى مؤيدي حماس . وهكذا ، سيكون هنالك صراعات ـ نحن نعرف مدى عنفها ـ بين الأطراف الفلسطينية في الدولة الجديدة . نعني أن التناقضات الفلسطينية الأساسية بين الرأسمالية الفلسطينية التقليدية والليبرالية الدولية ـ ومركزها الأردن ـ وأبوات السلطة وأجهزتهم وفئات البزنس المرتبطة بهم ، والحركة الإسلامية ، سوف تجد في الأردن ، مدى واسعا للإنفجار . وسيتم تضخيم وتصعيد الصراعات ، وستلجأ قوى فلسطينية إسلامية واخرى مضامة في الترتيبات الجديدة إلى شن عمليات مقاومة ضد إسرائيل ، أقله لتحسين شروط تفاوضها الداخلي،
(3) إنه من غير الممكن إعادة تركيب الدولة الأردنية لاستيعاب المشروع الفلسطيني أو حتى فلسطينيي الأردن سياسيا، والحفاظ ، في الوقت نفسه ، على صيغة الحكم المطلق. فالمحاصصة سوف تفرض ، في حال نجاحها ، نوعا من اللبننة أو العرقنة. وفي هذه الحالة ، هل يمكن تصوّر أن يقوم القصر بالمشاركة في ترتيبات المحاصصة، نيابة عن النخب الأردنية . هذه الأخيرة ستطالب، عاجلا أم آجلا، بحصتها ، مما يضع النظام الحالي ـ ووجوده هو اساس الحل المقترح ـ في موضع التساؤل. .
(4) المشاريع المطروحة في صيغها المختلفة ، تتجاهل المقاومة القائمة والمنتظرة من قبل التكوين الوطني الأردني الصلب الذي لم يعد قابلا للتفكيك أو الإذابة . ومن المفارقات أن هذا التكوين، المتشكّل منذ نهايات المرحلة العثمانية ، قد تبلور وتجذّر في حراك اجتماعي أخذ مداه في ظل السياسات الرسمية منذ مطلع السبعينيات . وما يزال يفرض شروطه، ويمتنع عن الإستجابة لخطط " التحديث" حتى بعد عقد كامل من اللبرلة الإقتصادية والمساعي الحثيثة لتحويل المواطنين إلى سكان ، والدولة إلى شركة ، والقيم الوطنية إلى قيم البزنس، في صيغة تلغي الهويات السياسية ، أردنية أو فلسطينية ، وتعتمد هوية ليبرالية كوزموبولوتية. الآن، سوف يظهر ، أكثر من أي وقت مضى ، أن تينك الخطط والمساعي قد فشلت كليا. فشعار المرحلة المطروح شعبيا الآن هو " فلسطين للفلسطينيين والأردن للأردنيين". ذلك يعني أن الأحداث والتطورات قد تجاوزت اتفاقيات أوسلو ومعاهدة وادي عربة وكل ما رافقهما وتبعهما من سياسات سلام عابر حقا. ونحن لا نعود الآن إلى سنة 93 ولا إلى سنة 67 ، بل إلى سنة 48. لا حل للقضية الفلسطينية من دون إعادة تأسيس المجتمع الفلسطيني على أرض فلسطين. هل ذلك ممكن من دون تفكيك الدولة الإسرائيلية ؟ السؤال ، بالنسبة للوطنيين الأردنيين، أصبح واضحا و حاسما : تفكيك الدولة الإسرائيلية أو تفكيك الدولة الأردنية . ولا مناص من مواجهة الخيار التاريخي واستحقاقاته .