سنبدأ عيدنا الكبير بسؤال كبير بحجمه : ماذا اختلف هذا العيد عن سابقه بحالنا وأحوالنا وفرحتنا به، وسننهيه بسؤال كذلك : ماذا يجب أن نفعل للقائك بشغف في المرة القادمة أيها الكبير؟؟
بدون تشاؤم إلاّ أن الواقع الراهن المرّ يجيب بنفسه عن حاله بإجابة تكرّس التراجع للوراء بتزايد مؤلم عاماً تلو الآخر.
بعيداً عن حال الوطن العربي المارق، والمشهد المحلّي الخانق، فقد ملّ القلم من وصفه وأٓبٓتْ الحروف أن تكرّر نفسها لرثاء حاله؛ فدعونا نرى ما هو ملفت للنظر في عيدنا الحالي مقارنة بالأعياد (الحقيقية) السابقة.
اعتقد ولست اجزم أن العيد في الوقت الحاضر من الممكن أن نسميه "عيد الهاتف الذكي" أو "العيد الافتراضي"، فهو عيد التواصل الاجتماعي من خلال تطبيقات الهاتف العديدة والكثيرة جداً، فمن كثرتها قرّبتنا (افتراضياً) وبعّدتنا (وجدانياً) للأسف الشديد.
عايدنا على بعضنا في هذا العيد الكبير بالواتس آب والمسنجر، واكتفينا بذلك ظناً منا أننا قمنا بالواجب وأسقطناه عنا، وأن هذا السلوك (الصغير) يتناسب مع قدسية ذلك العيد (الكبير)؛ فالمناسبة جمعت أجسادنا لا أرواحنا، أقولها بكل ألم وحسرة على تلاشي حميمية العلاقة التي كانت تميّز العربي العربي لا (الغربي المستعرب)؛ فهذا حاله الآن..
كان العيد قبل تلك التطبيقات الحديثة الجامدة والباردة جداً هو؛ فرحاً غامراً ومرحاً عامراً، مرّت السنون وتوالت الأزمنة بأزماتها وبفرحها وبكدرها وباختراعاتها وحتى بفجرها، وملأت أبراج الخلوي المكان بين العمارات السكنية، وعلى الطرق المعبّدة السوداء التي أزاحت الشجر وطغت على ملامح الاخضرار، فغيّرت مسارات الأقدام بعد أن كان المسار خارطة روحية ومعنوية فاخرة تزيّن معالم المكان والزمان بين الأهل والجيران، فطُمست رائحة الطين وطُمست معها رائحة كعك العيد وفرحتنا بطقوس تحضيره التي كانت تجمعنا بمذاق لذيذ وبنكهة خاصة جداً، فاندثر أثيرها بعد أن كان في كلّ عيد يتصاعد ملوّحاً بعنوان الأصالة وبطعم جميل خالٍ من المرارة، فملأ الجمود أعيادنا الحديثة (الافتراضية) المزيفة التي لا تشبهنا أبداً .. 7
صحيحٌ أن التكنولوجيا ريّحتنا وزادت رفاهيتنا ولكنها قتلت إنسانيتنا في ذات الوقت، وأضاعت قيمنا النبيلة فتاهت بوصلة عاداتنا الجميلة، لم يعُد يختلف العربي عن الغربي سوى بالنقطة الظاهرة كتابةً فقط، تلك النقطة ختمت السطر الأخير من عبق تراثنا المجيد وعطر شيمنا الأصيلة، فتوقف تاريخها هناك. أضحى العربي والغربي لا يختلفان سوى بطباعة النقطة على حرف (العين) ..
في خضمّ تلك التغيرات في هذه الأزمنة وعلى مسافة جميع الأمكنة، وتغيّر الأحوال وتبدّلها، ورحيل الطيبين بلا عودة، وطغيان الاعتماد على الهاتف الخلوي في تفاعلنا حتى في مناسباتنا الشعائرية وطقوسنا المميزة، انطمست (الهوية النفسية) للعيد ولم يعُد كبيراً كما عهدناه، وأمسينا آلات نؤدي أيام العيد المحددة بإجازة رسمية كأيام زائلة وأوقات جائلة دون فرحة أو بهجة، فبات العيد دون طعم أو ذوق أو رائحة كما كان ونحن صغاراً، أضحى العيد لأداء الواجب الاضطراري (جرّاً) بشكل روتيني بائس كخروف الأضحية المجرور لحتفه قهراً دون حيلة..
العيد فرحة وتكمن فرحته بإطعام لحوم الأضحيات للمحتاجين وزيارة الأرحام واللباس الجديد والكعك والمعمول اللذيذ، ولكنه أجمل عندما يكون في بسمة صادقة وتهنئة حارّة نتلقاها مباشرة ممن نحبّ، وليس من خلال شاشة الهاتف وتطبيقاته التي لا حصر لها، ولكنها رغم ذلك خالية من المشاعر الدافئة الصادقة التي كنا نراها على وجوه أحبائنا وأصدقائنا وأقاربنا وجيراننا؛ فهذا هو طعم العيد الروحي وفرحته الحقيقية..
الأرض واسعة جداً ومهما ضاقت دوماً هناك متسع فيها للمحبين رغم كثرة المتخاصمين، ومن مزايا العيد أنه ما زال باستطاعته ولو في الحدّ الأدنى من إزالة البغض والحقد والغلّ من قلوبنا، فالمساحة الضيقة تتسع للملايين متى ما وُجد الحبّ الحقيقي لا الافتراضي، ومتى ما كان التجاوز عن الأخطاء أصل لا فضل..
فمن شاء منا أن ينعم بالعيد وبحياة كلها أعياد فليقلّص علاقاته الافتراضية الى درجة (الصفر)، ويستمتع بعلاقاته الحقيقية الدافئة الى ما لا نهاية، وهذا لن يتم الا اذا تعافينا من داء (النوموفوبيا) أي - إدمان الموبايل- وعندما يقلّ اعتمادنا في تواصلنا عليه كما كنا نعيش سابقاً وكنا سعداء أكثر .
حريٌ بالأمة العربية والإسلامية في رحاب العيد أن تكفكف دمعة الأيتام أبناء (الشهداء) والمهجّرين، وأن تؤوي المشرّد والطريد، وتُطعم الجائع، وتساعد الفقير، وتكسو العريان؛ فالعيد هو عيد أمّة لا عيد قلّة.
وحريّ بها أيضاً التأكيد على تماسكها لا التمسّك بالهاتف، ووحدة بنيانها، ونبذ منطق الفتنة والفرقة والتشرذم العنصري القبيح؛ فالعيد عيد أمّة مؤتلفة في تطلعها نحو غدها الجميل ونحو مجدها الكبير المأمول.
العيد فرصة عظيمة لتذكير الأمّة بعوامل نهضتها وشروط منعتها وتقدمها، وتموقعها بمكان يليق بها في هذا العالم الحقيقي وليس ذلك العالم الافتراضي. عندئذ قد نستقبل العيد القادم بحال أفضل إن شاء الله..
وإن بدى جميع ما ذُكر محزناً أو محبطاً لكن لا بدّ أن نهنىء أنفسنا ونهنىء بعضنا بالعيد؛ كيف لا والعيد فرحة ويوم فرح في الأرض والسماء...
كل عام والجميع بألف خير في عيد الأضحى المبارك؛ فهو العيد الكبير ويتسع لاحتضان الجميع بالمحبة....
دوماً هناك للحديث من بقية.. دمتم...