عمون - كتب مهند مبيضين:
بعد العمليات الإرهابية في الأردن، والتي طاولت مدينتي الفحيص والسلط، اختار الملك عبدالله الثاني أن يلتقي جمعاً من الإعلاميين، للحديث معهم، وفق تقليد اختطّه منذ زمن لحديثٍ في شؤون البلاد والإقليم، وكان للحديث المقرّر له ساعة ونصف الساعة أن يطول ساعتين وأكثر، فهو ملكٌ يقول ويستمع ويجادل، ويدافع عن رؤاه، كما يرحب بأن تختلف معه ويختلف معك، ويقول لك: أنا قرأت مقال كذا، وتابعت مع فلان، و"بعرف في الموضوع ومتابعينه". هذا خطاب يقدمه ملكٌ باحترام كبير لكتّاب بلده، وكأنه يقدم تقريراً دورياً عن إنجازاته والتحديات أمامه، في حالة نادرة في دول المنطقة العربية.
لا يُحب الملك أن يقال له "إحنا بخير إذا أنت بخير"، ولا القول إن "البلد مزدهر وحسب" أو "الدنيا قمره وربيع"، ذلك سيكون عنده نفاقا ممجوجا، فهو يحب النقد والـتأشير على مواطن الخلل والتأخر أكثر، ويرفض ديباجات المديح العائدة إلى زمن القرون الوسطى، ويفاجئ الحضور بأن كل شيءٍ يصل إليه، وأنه مُطّلع حتى على أساليب المحتالين الذين يدّعون صلةً به أمام الناس البسطاء، أو أمام المسؤول الضعيف، ليحصلوا على ما يريدون بطرق فاسدة، وهو يفرح، حين يقدّم أحدٌ حلاً أو مقترحا فيدوّنه، ويطلب من مدير مكتبه المتابعة.
تحدّث الملك، العائد من سفرة طويلة إلى الولايات المتحدة ولقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأعضاء الكونغرس، عن المشهد المحلي، والجهود الأمنية التي بذلتها الجهات المختصة في متابعة القبض على مُفجر قنبلة مدينة الفحيص في التاسع من أغسطس/ آب الجاري. ومع أنه اعتذر عن عدم إيراد التفاصيل، للحفاظ على طبيعة العمل الاستخباري، إلا أنه شدّد على ضرورة عدم التوقف عند أسماء المنفذّين "حفاظاً على كرامة أسرهم التي لا دخل لها باختطاف أبنائهم للتطرّف وتقويض أمن البلد"، تلك هي الإنسانية والحصافة والنبل والحلم الهاشمي، ملك يدفن رفاقه في السلاح الذين قال إن بعض من استشهد منهم خدم معه، وكانت له معه مواقيت ولقاءات قبل استشهاده بيوم، لكنه يعود ويصطبر، وينحّي الأهل والعائلة عن خطأ الفرد. ويؤكّد، في الوقت نفسه، على أن المؤسسات الأمنية، وفي مقدّمتها المخابرات العامة وقوى
"أكد أنه، في حدود معرفته ولقاءاته مع ترامب، وساسة أميركيين، لم يطلع على "صفقة القرن" الأمن الوقائي، استطاعت، بعد ثلاث ساعات من تفجير الفحيص (منطقة ذات أغلبية مسيحية كان مهرجانها الثقافي يشهد آخر أيامه)، تحديد خيوط المخطط وجمعها، وبين عملية الفحيص ومداهمات السلط، قال الملك: "هناك ثلاثة واجبات أمنية نُفذت للقبض على متورّطين". ويفخر الملك بأداء الأجهزة، ويتحدّث عن تنسيق عالٍ وجهود جبارة في بلدٍ محاط بالحرائق والتطرّف.
فتح هذا الحديث الباب إلى الانتقال إلى الفكر المتطرّف، ومصدره النابع من مجموعة دينية، أو مذهب، يرى الكل كافراً دونه، وهو أمر يحتاج، برأي الملك، جهودا طويلة، وهو فصل في تاريخ المنطقة لا ينتهي ومستمرّ، ويحتاج ثقافة تنويرية حقيقية، وإصلاحا إسلاميا حقيقيا.
انعطف الملك مباشرة إلى التركيز في حديثه عن زيارته الولايات المتحدة، مؤكداً أنه، في حدود معرفته ولقاءاته مع الرئيس ترامب، وبعض الساسة الأميركيين، لم يطلع على ما تسمى صفقة القرن، وقد يكون هناك خطة بيد فريق ترامب، وأنه تحدث إلى الأخير طويلاً عن خطر ضياع فرصة حل الدولتين، وأن دولة إسرائيل أحادية القومية خيار كارثي، وستكون إسرائيل في المستقبل دولة أبارتهايد (فصل عنصري)، وهو أمر يضرب كل ما تدعيه من سمعة ديمقراطية زائفة. وشدّد الملك عبدالله الثاني على تمكين عرب الداخل في دولة الاحتلال، وعلى الصلات المستمرة مع النواب العرب في الكنيست، وضرورة دوامها. وقال إنه متابعٌ لحركة مظاهرات الدروز أخيرا، وأشار إلى أن مؤتمراً لدروز المنطقة سينعقد في الأردن قريبا.
ويقدّر الملك، ولا يجزم، أنه حقق في الولايات المتحدة تأثيراً لصالح فكرة العمل على عودة جلوس الطرفين المتفاوضين، الفلسطيني والإسرائيلي، وأنه ذكّر ترامب بأن لديهم في أميركا انتخابات داخلية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وفي إسرائيل هناك انتخابات قريبة، ومعنى هذا أن العام الحالي (2018) لن يشهد حلاً أو تقدّماً أو صفقة للقرن، كما يرى الملك. بالتالي فإن الحديث عن تأجيل "خطة كوشنر"، حين سأل أحد الإعلاميين الحضور الملك، هل يعني عدم قبول أو تهيئة الأطراف لتوقيعها؟ فرد الملك بسؤالٍ مقابل: "أو لنقل لأنه لا يوجد خطة أصلاً"؟
بيّن الملك عبدالله الثاني في المباح من الكلام الذي طُلب عدم نشر جزءٍ منه، وهو كلام يحمل اجتهادا ورؤى وخبرة وحصيلة علاقات، أن هناك موقفا أوروبيا سيكون ضد صفقة القرن، ويرى أن الرئيس ترامب منفتحٌ على أي حل، ولا انحياز كبيرا لديه لأي طرف، لكن جمود العملية السلمية هو الذي يفرض الجدل الراهن، ومحاولات بعضهم تقديم حلول، وهذا يتم برغائب مختلفة لدول المنطقة التي لديها شهية في ملف السلام، لكنه عاد وأكد على أنّ الموقف الأردني ثابت ولم يتغير: "نحن ما غيرنا موقفنا، وسنعمل على إعادة طرفي التفاوض للجلوس معاً، وعبر مظلة الأمم المتحدة".
بدا الملك عبدالله الثاني مرتاحاً في حديثه للإعلاميين عن مستقبل بلده وراهن هذا البلد، لكنه لم يغفل عن الإشارة إلى الضغوط الكبيرة التي تمارس على الأردن، وعن تحدّياته العابرة، فقراً وبطالة وجوعاً ومزاحمة في دوره الإقليمي، وعن ضرورة معالجة الراهن الأردني بأدوات محليةٍ وبوصفةٍ عنوانها صبر الأردنيين ولا منّة الآخرين، مع العمل والإنجاز وتكثيف الحوار وهيكلة الترهل في المؤسسات. وهو يعترف بأن مناخ الاستثمار الأردني غير مريح، وأن معالجة الاختلالات في المؤسسات الناظمة للاستثمار ضرورية، وأن الفساد موجود، ولا بدّ من نهج واضح لضربه، وأن الإصلاح السياسي هو الملاذ الحقيقي للخروج من الأزمات. وفي سبيل ذلك، بين الملك أنّ هناك توصية للحكومة بتعديل قانون الأحزاب، وأن مستقبل مجلس النواب المقبل غير واضح، إذا ما كان سيكون وفقاً لتشكيلة المجلس الحالي قائلاً: "لدينا عامان للمجلس الحالي"، فهل معنى هذا أن المجلس الذي يليه سيأتي وفق قانون انتخاب جديد، وهو أمر تُرشحه النخب الناقدة للمؤسسة التشريعية ولأداء النواب.
لا يبدو الملك عبدالله الثاني راضياً على أداء البرلمان الحالي، مشاركاً المواطنين خيبتهم بنوابهم، لكنه كان سعيداً حين رأى قوةً تولد من الضعف، حين أعاد الحضور في مجلسه التذكير بأن أحد نواب الشعب أثار قضية فساد الدخان، ووضعها على طاولة الحساب، وقد أشار إلى أن هناك قوىً تحمي الفساد، لكنه تنبه إلى أن هناك نماذج مشرقة في البلد، وإلى أن ثمّة عملاً وإنجازاً كبيراً، في مقابل كل ما يقال وينشر من شائعات عن الأردن، لمّح إلى أن مصدرها خارجي، وبنسبة 40%.
لم يكن لقاء الملك عبدالله حديثاً من عنديّاته، فهو يجوب الدنيا تاركاً وراءه بلداً في عين "الفساد موجود، ولا بدّ من نهج واضحلضربه" الأعاصير وفلك المؤامرات، وحين قال له أحد الحضور إنه لا ملفات إقليمية لدى الأردن، ردّ قائلاً: "لا سيدي، أنا قرأت ثلاث مقالات عن خيارات وملفات الأردن في السياسة الخارجية". وهنا اضطر للإفصاح عن جهوده في ترتيب البيت العراقي، والتواصل مع رؤوس القوى السياسية فيه، وعن المسألة السورية والبيت الفلسطيني، والقرن الأفريقي، مذكّراً بلقاءات العقبة، لكنه استدرك مذكراً بأنه لا يملك وسائل إعلامية تبث للخارج، وليس معنياً بأن يعقد مؤتمراً صحافياً لكل حركة أو لقاء له لمصلحة بلد شقيق او ملفٍّ بعينه.
ويُفسر الملك عبدالله مقولاتٍ كثيرة عن حجم الأردن ودوره الإقليمي، ويعطي دليلا على جهود الأردن في الملف السوري، فدور الأردن في حفظ التراب السوري هو الأهم، وهناك اتصالات أردنية حديثة مع النظام السوري، وثمّة تثمين روسي للدور الأردني في استقرار الجنوب، وهنا يذكر الملك "لم نتورّط، وقاومنا كل ضغوط التدخل من جهة الجنوب في بدايات الثورة"، كما أنه أول من نبّه لخطر التمدّد الإيراني عراقياً وسورياً.
في الأردن اليوم ستة ملايين لاجئ ومُقلّع ونازح ومُهجّر، يعيشون على أرضه، ويأكلون مع مواطنيه، ويدرسون في مدارسه، في ظل وعود الدعم الغربي الزائفة، وفي راهن مجتمع يتطوّر ويتحرّك باستمرار نحو التقدّم العلمي، على الرغم من كل مآثر الكراهيات والإشاعات ضد الأردن، لكنها لا تزيد الشعب إلا إيماناً بوطنه وقيادته، وبوجوب حماية دولة الشرق العربي وإرثها في أردنٍّ متعدّد مدني ديمقراطي، بهويّة عربيّة منفحته على كل المكونات الثقافية.
العربي الجديد