للمرة الثانية تنشر صحيفتنا خبراً من الرمثا عن تنقيب عن الذهب يجري في احدى المقابر هناك. وللأمر بعض التداعيات, فقد عشت أغلب عمري على بعد عشرات وربما "خمسات" الأمتار من المقبرة المعنية, وفي الواقع لقد ترعرعت في تلك المقبرة بعد أن ولدت بجوارها, ولكنها عموماً كانت مكوناً مهماً لثقافة الحي وثقافة البلدة ككل.
رغم توفر الحيز العام بكثرة في الرمثا آنذاك, إلا أن المقبرة كانت تعتبر جزءا مميزا من هذا الحيز وخاصة للأولاد حيث كانت تضمن لهم الغياب عن أنظار الأهل, وفي الواقع كان كل الكبار يعتبرون أهلاً لأي ولد منا, يتدخلون ويوجهون النصائح بل ويعاقبون بموافقة وترحيب الأهل الأصليين.
يتبدل الدور الذي كانت تلعبه تلك المقبرة حسب الفصول, أو على الأصح حسب الفصلين: الشتاء والصيف, ذلك لأننا كنا نشعر بانتهاء الشتاء عندما نشم "رائحة الصيف", وكنا نشعر بانتهاء الصيف بعد أن نحس بالشتاء "على الأبواب".
أهم ما في المقبرة هو الشارع الذي يفصل جزأيها, وكنا نسميه "بين المقبرتين", وكان يعد ميداناً للكثير من النشاطات الخاصة المتنوعة (وفهمكم كفاية). ولكن حتى عندما تعرفنا على السياسة والأحزاب فإن اللقاءات المهمة مع الرفيق ابو نصوح أطال الله عمره جرت أيضاً "بين المقبرتين" حيث المكان مناسب للحديث بحرية وفيه كان يمكن تبادل المنشورات السرية بعيداً عن الأعين سيما وأن الاقتراب من المقبرة كان مخيفاً لمن ليس له عمل رسمي! ومؤخراً عندما رسب أحد المرشحين للبرلمان في الرمثا عاتب الحكومة في خطبة علنية مذكراً إياها أنه هو من كان أيام الأحكام العرفية يجمع منشورات الحزببين من "بين المقبرتين".
اليوم وبعد الأخبار عن البحث عن الذهب الذي بعثر عظاماً مستقرة منذ عقود, يبدو أن موقع المقبرة في الثقافة الشعبية قد تبدل.0
ahmad.abukhalil@alarabalyawm.net