تقديس الغرب والنزوع للاستقلالية
حسن الشوبكي
26-05-2009 05:29 AM
جدلية سؤال الحرية والتبعية لا تنتهي عبر كل العصور، ولكنها اليوم أكثر خطرا وأشد وطأة فضلا عن كونها عصية على الفهم مع انفراط عقد العولمة الاقتصادية والمالية في العام الأخير، وفي غمرة ذلك ومع انسحاب وانحياز مجموعات جغرافية ودول كبيرة إلى خصوصياتها وحاجاتها الرئيسة، يواصل العرب - كمجموعة بشرية - توثيق العلاقة مع الغرب الرأسمالي بأي شكل وأي ثمن.
يصعب فهم استمرار اعتماد العرب على الغرب في المأكل والمشرب والملبس، وقبل ذلك في الاعتماد على تنويعة هائلة من أشكال المستوردات وفي السياسات الاقتصادية وفي العملة وفي التسليح وغيرها من باقي أركان الاقتصاد، حتى إن الأنماط التي تقوم عليها الاقتصادات العربية لا تعدو شكلا جامدا لتشوه إنفاق وبنية اقتصادية لا إنتاجية فيها وسط غياب الأفكار أو اضمحلالها لصالح البعد عن التحرر والإبقاء على التبعية.
ولكي لا نبتعد كثيرا، فالوضع المحلي لا يختلف كثيرا عن أوضاع اقتصادات عربية مشابهة في العلاقة مع أميركا وبنوكها وسياساتها النقدية والمالية، فبعد سنوات مضنية من التعاطي مع وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين والتحول الى حديث البرنامج الوطني للإصلاح عدنا قبل بضع سنوات الى هيكلة وإصلاح مالي على الطريقة الأميركية (يو اس ايد، وشركة بيرنغ بوينت)، وظلت سياستنا النقدية متصلة برباط يبدو "مقدسا" مع ما يرشح عن الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة من سياسات، وعملتنا مرتبطة بالدولار، وجهودنا تنصب على توقيع اتفاقيات تجارية مع واشنطن وحفز مستوى صادراتنا مع أكبر سوق في العالم.
لا أدعو الى القطيعة مع الولايات المتحدة أو "تضييق" الخناق عليها اقتصاديا، وانما أبحث عن إجابات لسؤال الاستقلالية وإعادة إنتاج القيمة المضافة لمنتجنا المحلي وكذلك العربي بعيدا عن علاقة تحكمها التبعية.
يطلق مفكر ماليزيا وراعي نهضتها واستقلالها الاقتصادي الدكتور محاضير محمد سؤالا مدويا عن سبب استمرار العرب في استخدام الدولار الأميركي، ويتبعه استهجان لزيادة حجم الأرصدة العربية في البنوك الأميركية، ويقول المفكر والسياسي والاقتصادي الآسيوي الأكثر شهرة "لدينا في ماليزيا الكثير من المستثمرين الأميركيين وهم مهتمون بجمع المال وليس السياسة، ولكوننا لا نقترض من حكومة بلادهم، فإننا بمنأى عن ضغوطهم وضغوط حكومتهم".
ذات الرجل - محاضير - كان من رفع شعار "البريطانيون آخرا" في مطلع الثمانينيات ونظر بكل قوته الى الشرق الديناميكي - اليابان وكوريا - واستطاع أن يصنع نموذجا، يفاخر به الأميركيين أنفسهم، وهو النموذج الذي حقق لماليزيا تسامحا وشراكة ورخاء عبر إعادة توزيع الثروة والسلطة وفق أسس شفافة وإنتاجية وذات دلالة إبداعية ليس فيها قداسة الا للعمل ولا تهتم للافكار القادمة من الغرب البعيد.
وعلى ذات النهج خطى زعيم سنغافورة لي كوان يو وتمكن في ثلاثين عاما من تحويل الجزيرة النائية الى أهم مركز تجاري ومالي في العالم دون الارتماء في الحضن الغربي، وفي صورة مشابهة تمكن العملاق الصيني من الاكتشاف مبكرا أن المشتقات المالية التي صنعت ثروات وهمية في البورصات العالمية لم تكن سوى "شيء تافه وكلام فارغ وتعمل على خداع الناس" وهذا القول في العام 2000 لجاو زنغ الذي كان مستشارا لرئيس الوزراء الصيني، بينما كان مخططو الاقتصاد الأميركي يتغنون بتلك المشتقات في ذاك الوقت، ولم يعلموا أنها ستكون خرابا وإعصارا أتى على مجمل الاقتصاد العالمي وضربه بشكل قاس ولفترات يصعب حصرها حاليا.
حديث الاستقلال في البلاد العربية يجب أن يرتبط بالسياسات والأفكار وأن ينحاز الى الخصوصية الداخلية ويتعاطى معها ويفكر لصالح التحرر لا إلى مزيد من القيود، وهنا تكمن المفارقة، فثمة من يخطط في آسيا لصالح نموذج حيوي وذكي عنوانه الأبرز الاستقلال، ويقابله غياب النموذج في المنطقة العربية وغياب التخطيط، والإبقاء على علاقة شبه مقدسة مع الغرب البعيد.