أمس تعرضت قوة مكافحة الإرهاب، لوابل من الرصاص الكثيف...وسقط بهم المبنى...لكنهم في النهاية نفذوا الواجب الذي كلفوا به... ماذا حدث بعد ذلك؟ الذي حدث أن ضابطا (نشميا) من دائرة شؤون الأفراد وصلته برقية من المدينة الطبية، تفيد بأن الضابط الذي خرج في المهمة يوم أمس قد استشهد.. وهنا على هذا الضابط العامل في شؤون الأفراد أن يخرج ملف الشهيد،عليه أن يقلبه...وأن يقرأه كاملاً ويعرف حجم الدورات التي تلقاها، ورأي قادته به...وآخر راتب قبضه، وآخر إجازة حصل عليها، وعليه أن يذرف دمعة، على أخ له في السلاح والواجب..من ثم يغلق الملف نهائياً، ويكتب عليه كلمة شهيد، ومن ثم يحفظه دون أن يفتح مرةً أخرى.
هذا هو قدرهم في كتيبة المهمات الخاصة، فهم لايعرفون حين يخرجون في مهمة، هل ستغلق ملفاتهم نهائياً؟. ويكتب عليها (شهيد) أم أنها ستفتح مرةً أخرى كي يحفظ بها المزيد من الدورات والترفيعات..والمناورات.
قدرهم أن يستشهدوا فقط...أن تنسف بهم المباني، وأن يواجهوا الرصاص بصدورهم، وقدرنا نحن أن نتشاجر حول مقالة في الأجندة الوطنية، لملهم تربى في أحضان (كارنيغيه) ويريد تعليمنا أصول الليبرالية والدولة الحديثة، أن نختلف حول رأي وزيرة فاضلة في تسعيرة (الطاقة)... وقدرنا أن نستوزر، قدرنا أن ننتج من الثرثرة أضعاف ما ننتج من الفوسفات.. قدرنا أن ندافع عن هذا وندين ذاك..وأن نصفق (لزيارة كشك أبو علي)....
فقط ما أريد أن أعرفه هو شيء واحد : شعور الضباط في مديرية شؤون الأفراد، وهم يحملون ملفات شهداء العملية... شعور وكيل أول في المدينة الطبية، وهو يمشي في الممر حاملاً جثثهم النبيلة والكريمة والطاهرة الشريفة... وصوت يأتيه من خلف الجدار قائلاً : ترفق بهم يا هذا.. فقد كانت العملية قاسية، عليهم ولم يتراجع أي واحد منهم.
فقط ما أريد أن أعرفه، هو رفاقهم في الكتيبة، والذين جاءوا على عجل كي يقومون بتوديعهم، وإلقاء النظرة الأخيرة عليهم قبل تكفينهم ووضعهم في النعوش....
هؤلاء هم الأردنيون الحقيقيون.. هؤلاء هم من أنحني لبساطيرهم.. وأقبل اليد التي صمتت ولم تعد تتحرك...
هذه هي حياتهم، وهذا هو قدرهم. أن تطوى ملفاتهم وتحفظ وأن يجلس رفاقهم في كتيبة المهمات الخاصة، بجانب بعضهم ويتبادلون الحديث الصامت، وفجأة ومن دون إخطار تنفجر الدموع في عين واحد منهم...
صدقوني أن علاقة، من يخوضون الموت سويا والقتال سويا هي أقوى من علاقة من ارتموا، على كراسي المناصب الفاخرة تحت مسميات مهمة...لأنها علاقة دم ورصاص..
وهل يوجد في العمر أسمى من أخوة الرصاص والعسكرية؟
ترفق يا سيدي الضابط بملفات الشهداء، غلفها بالنايلون واحفظها في مكان عال جداً.. من الخزانة، ترفق بها فلم يبق لهم من الحياة غير الأوراق.. وصور الدورات، ولتكن يدك حانية وأعرف أنك يا ابن التراب والجيش، ستكون حانيا على صورهم.. وتقاريرهم وكل دوراتهم وسيرتهم العطرة... وقبل الملف مثلما تقبل جبهة الوالد وتراب البلد، وكسوة الكعبة.. قبله بشفتيك واقرأ عليه من كتاب االله بعض السور القصار...
واتركني يا بن دمي في حزني العصيب فمنذ أمس وأنا بين دمع ودمع... وأسأل، لماذا هو الموت وحده يكتب علينا.. ووحدنا يكتب علينا.. لماذا يا بن دمي والتراب؟
Hadi.ejjbed@hotmail.com
الرأي