الشاب العشريني كان مزهوا وهو يحدثني كيف ردّ وإخوته ورفاقهم على تعرض شقيقه للضرب من قبل أحد زملائه في المدرسة. الشاب المتحمس شرح كيف جرى تطويق المدرسة بنحو خمسة وثلاثين شابا من مفتولي العضلات لكي يأخذوا بثأرهم.
وتجري رواية هذه الأحداث بصفتها تعبيرا عن الكرامة وشكلا متعاليا من أشكال النخوة والكبرياء. لكن ذلك، في بعده الأعمق، تجسيد لنزعة تستمد معطياتها من أدبيات ما قبل الدولة، حيث يؤخذ الحق بالقوة، وحيث تحشد الجماعات المختلفة أو الأفراد المعتركون "قواتهم" من أجل إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر، حتى لو كان سبب الاحتراب أقل من تافه.
والذين يقدمون على ارتكاب ذلك لا يؤمنون بسلطة تسمى سلطة القانون، ولم يسمعوا بأن هناك جهازا ضخما يدعى الدولة، ولدى هؤلاء حنين جارف إلى حروب الجاهلية كداحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان وحرب البسوس، وهما حربان من أطول حروب العرب ومن أكثرهما بشاعة وتخلفا.
حرب البسوس التي اندلعت بين قبيلتي بكر وتغلب واستمرت 40 عاما، مضى على انتهائها 1475 عاما، لكنها ماثلة بشدة في تضاعيف العقل العربي الذي يتعين أن يكون انتصر على تلك الحقبة الجحيمية من تاريخه غير الحميد.
الهازئون بالقانون يعبرون عن رغبة خفية في تجاوز المؤسسات، وإحلال أنفسهم مكان القواعد والنواميس التي أجمع الناس على جعلها نبراسا لتجمعهم وائتلافهم وحركيتهم. أولئك الهازئون العابثون لا يعلمون أن مسلكياتهم تلك تنخر في عضد المفاهيم التي تأسست عليها الدولة التي غايتها القصوى، بحسب الفيلسوف الهولندي اسبينوزا الذي يعد من أهم فلاسفة القرن السابع عشر، "تحرير الأفراد، والحفاظ على أمنهم، وتمكينهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية، وحمايتهم من كل أشكال العنف والتسلط، وتنمية قدراتهم الجسدية والذهنية، شريطة عدم إلحاق الضرر بالآخرين، والامتثال لسلطة الدولة، وعدم الخروج عن التعاقد والمواثيق المتفق عليها".
فهل ينتمي إلى هذا التصور لفكرة الدولة ممارسة فرد أو جماعة بالاعتداء على مستشفى وإطلاق النار على مريض وقتله ردا لثأر عمره 23 عاما؟ وهل نصون الدولة أم نختطفها عندما نحطم محطة تلفزيونية لنشرها إساءات استهدفت جماعة ما؟
وبالمقدار ذاته من الانتهاك لصورة الدولة نعاين حوادث الاعتداء على الأطباء والممرضين والمعلمين. وثمة حوادث ترقى إلى التدمير والحرق والقتل. ولعل نزعة اختطاف الدولة تفاجئنا بأساليب أخرى من التطاول والاستهانة والالتحاق بشريعة الغاب.
أكلما خطت الدولة نحو الأمام أشواطا جرتها النزعات الفردية والعصبيات إلى الوراء؟
أنكون سعداء إن وسمنا بأننا ننتمي في الأردن إلى عهد ما قبل الدولة؟
أيشعرنا بالزهو أن نُنعت بأننا معشر من البشر خارجون على القانون ومفردات العيش المشترك؟
أتكون فسحة التسامح قد تضاءلت إلى حد أن نشهر سيوفنا ونلوح بهراواتنا لكل سانحة مهما تضاءل وزنها أو انحط شأنها؟
أإلى هذا الردى يود أولئك المنافحون عن شرف الجماعة أن يقودوا المجتمع؟
أإلى التناحر والتباغض والتشاحن والتقاتل يرغب أولئك اللاهثون المتعصبون أن يلقوا بنا؟
نحزن لأن أحدا استفزّ جماعة، أو أن صحافيا أو مؤسسة إعلامية لم تراع مواثيق الشرف المهني، أو أن طبيبا أخطأ في معاينة مريض أو تشخيص علة، أو أن معلما غضب فضرب تلميذا، أو أن آدميا اقترف فعلا يستحق اللعنة والاشمئزاز.. لكنّ حزننا يزداد ويتضاعف إذا كان حل هذه المشكلات يكمن خارج مؤسسة القانون، وفي معزل عن أطر الدولة وهيئاتها.
الالتزام بالقانون هو الفيصل الذي يقترحه الفلاسفة والمفكرون للتمييز بين المنتسبين إلى المجتمعات المدنية، وأولئك الذين يعيشون في أقاصي التاريخ، والذين يحنّ كل واحد منهم لبسوسه وداحسه وغبرائه.
m.barhouma@alghad.jo
** الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الغد ..