صرحت هيئة الطاقة والمعادن بأنها وكوادر شركة الكهرباء ضبطت 11500 حالة سرقة كهرباء في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي.
رقم كبير من دون شك، والمؤكد أن مثله وأكثر من الحالات التي لم تضبط. والحالة هذه هي مثال على ظاهرة أعم وأشمل من السرقات والاعتداءات على الموارد والثروات العامة في البلاد.
قطاع المياه ضحية دائمة للسرقة، ورغم الجهود الحكومية التي تبذل للحد من الظاهرة، إلا أن الاعتداءات مستمرة وعلى نطاق واسع في عموم المحافظات.
مرد هذه الظواهر ليس تقصير السلطات في فرض سيادة القانون على المخالفين، وإن كان مثل هذا التقصير ملموسا في سنوات مضت، بل ثقافة مجتمعية راسخة الجذور لا ترى في التعدي على موارد الدولة سلوكا معيبا أو جريمة تستحق العقاب. بالنسبة لكثيرين، سرقة المياه والكهرباء وحفر الآبار الارتوازية من دون ترخيص والاعتداءات على أراضي الدولة، أفعال مقبولة من الناحية الاجتماعية، لا بل إنها مصدر فخر ورجولة لدى البعض، تستند في الجوهر لعداء مبطن لفكرة الدولة وقانونها، وفي أحسن الأحوال شعور دفين بحق حصري لفئات اجتماعية دون غيرها في التمتع بالمصادر العامة للثروات الطبيعية بوصف الدولة حيزا خاصا وموروثا للقوى النافذة في البنية الاجتماعية.
وينسحب هذا الفهم على علاقة المواطن مع الدولة في شتى المناحي؛ التهرب الضريبي والتمنع عن دفع مستحقات الخزينة، والتمسك بالأعراف العشائرية على حساب القوانين والتشريعات الرسمية.
لقد نما وترعرع هذا المفهوم لعلاقة المواطن بدولته على مدار عقود طويلة، وربما يعود في أصوله إلى بواكير العقد الاجتماعي الأول للدولة الأردنية. ورغم الصياغات الدستورية اللاحقة ذات الطبيعة المدنية المعاصرة للعلاقة بين الدولة ومواطنيها، إلا أن قوة الثقافة السائدة كانت هي الفاعل الحاسم في المجتمع.
وفي المرات القليلة التي أبدت فيها الدولة رغبة في تصويب العلاقة ووضعها على سكتها الصحيحة، كانت على الدوام تصطدم بقوة الثقافة السائدة وممانعتها، ما دفع بها إلى التراجع والتسليم بواقع الحال.
لكن السبب الأهم لإخفاق المؤسسات في مواجهة هكذا ظواهر لا يعود لضعف في قدراتها، بل لفهم خاطئ في تشخيص المشكلة، والاعتقاد بإمكانية الحسم من فوق، بينما في الحالة الأردنية عموما، الإصلاح لا يكون ممكنا وناجزا، إلا إذا بدأ من "تحت"؛ من أعماق المجتمع وثقافته ومفاهيمه التي تشكلت في سياق تاريخي طويل، وغدت سردية عامة وسائدة.
ونحن في غمرة الحديث عن قضية الدخان المهرب والمزور، دعونا نعاين الواقع بموضوعية وتبصر. المجتمع الأردني لم
يجرم هذه الظاهرة على الإطلاق، الآلاف من المواطنين اشتغلوا بهذه المهنة، وعشرات بل مئات المحال التجارية التي تبيع السجائر المهربة، لا ينظر أصحابها لعملهم هذا على أنه فعل مجرم، أو ينطوي على إثم ديني أو اجتماعي.
المسألة ثقافية بامتياز، ولا يمكن دحرها إلا بعمل دؤوب في جوف المجتمع لتحطيم المفاهيم البدائية وبناء منظومة جديدة.
منذ أن وعينا على الدنيا، ونحن نسمع الكلام نفسه عن عدم إلقاء أو ترك النفايات في المواقع السياحية والغابات الحرجية التي نصطاف فيها، انظروا إلى حال غابات اشتفينا اليوم؛ أكوام من النفايات تحاصر الأشجار والمصطافين.
الإصلاح يبدأ من تحت لا من فوق، حتى لو شكلنا ألف حكومة برلمانية، فلن نبلغ المبتغى.
الغد