ماذا يكسب المغترب وماذا يخسر؟
عبد الله بني عيسى
03-08-2018 10:31 PM
الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال تتطلب أطنانا من الصفحات، فتجربة الاغتراب، تحمل أبعادا عميقة عمودية وأفقية، ذاتية وموضوعية، وتختلف باختلاف الدوافع والقدرات الشخصية وبلد الاغتراب، لكني سأحاول لملمة الأمر في سطور، آخذا بعين الاعتبار ضرورة تحييد التجربة الشخصية ما استطعت، والاقتراب من السمات والظروف المشتركة بين غالبية الأردنيين المغتربين التي قد تصلح للقياس عليها. ولعل ذلك يكون مفيدا للمنهمكين حاليا في البحث عن سبل "الهج من البلد". وعلما أنني هنا أتحدث عن المغترب الموظف، متوسط الحال، وليس الموظف الذي يتقاضى راتبا مرتفعا جدا، أو المستثمر او صاحب المصنع، فهؤلاء قد يتشاركون في سمات معينة مع بقية المغتربين، لكنهم يختلفون في أخرى.
ماذا يكسب المغترب ؟
1. يكسب تجربة ثقافية حياتية جديدة وغنية، توسع أفقه ومداركه، وتمده بجديد العالم المتقدم بطريقة أسرع وأسهل، وتجعله أكثر تقبلا للمجتمعات المنفتحة، وتساعده في الخروج من شرنقة الأفق الواحد واللون الواحد إلى رحابة التنوع في الدين والعرق واللون والثقافة. وينعكس هذا المسكب في طريقة تعاطيه مع أفكاره وقناعاته القديمة، ويكتشف كثيرون أنهم تخصلوا من محنّطاتهم الفكرية البائسة، ومن تعصبهم لأفكار ظلوا لسنوات يعتبرونها مسلمات.
2. يكسب المغترب ميزة الاحتكاك مع تجارب الآخرين القادمين من كل بقاع الدنيا، ما يجعله معتمدا على نفسه في تعزيز موقعه ووظيفته، فينهمك في تطوير قدراته الذاتية، لأنها الوحيدة التي تضمن استمرار عمله في بلد الاغتراب، ويتعافى كليا من أي معيار آخر قائم على تدخل القرايب والمحاسيب والأصدقاء أو القوانين البالية للاستمرار بالرغم من ترهل الأداء.
3. ينعم المغترب بحياة سهلة من النواحي المعيشية اليومية، إذ لا معاناة مع أسطوانة الغاز، ولا احتياجات المنزل، وفواتير الكهرباء والمياه، والإيجارات، وامتلاك السيارة. وينعم وضوح مسارات الحياة بكل تفاصيلها، ما يجعل الحصول على الطعام والشراب والمواصلات والطبابة والتعليم والمعاملات الحكومية أمراً يسيراً، ولا يحتاج إلى التعقيدات التي يواجهها في وطنه.
4. يكسب المغترب بيئة صحية نظيفة له ولأسرته، وجودة عالية في الغذاء والتعليم والترفيه، وفق مسارات واضحة شفافة، بعيدا عن الغش والتدليس والفهلوة وتأجير الضمير. وقد ينعم المغترب بسنوات من الهدوء، بأقل مستوى من الضجيج والشد العصبي، ويكون أكثر التصاقا بأسرته.
5. ينعم المغترب ببنية تحتية متطورة في بلاد الاغتراب، ترفع معاييره الشخصية تجاه ما يفترض أن تكون عليه الخدمات والمرافق من طرق وحدائق ومستشفيات ومراكز ترفيه وغيرها.
ماذا يخسر المغترب ؟
1. يخسر فرصته في النماء والتطور وسط محيطه الاجتماعي، ويخسر فرصته في التفاعل الإنساني مع الأسرة الممتدة وأبناء القرية والحي والمدينة، الذين تجمعه بهم قواسم مشتركة كثيرة، وبالتالي يخسر فرصته في أن يكون إنسانا مؤثرا وفاعلا وقياديا في مجتمعه، لأن الاغتراب يحيله إلى مجرد كائن منعزل، حتى لو كن سعيدا بتلك العزلة.
2. يخسر الإحساس بطعم الإنجاز، إذ أن سعادة الانسان بأي انجاز في حياته، يستمده من مشاركة الآخرين بهذا الإنجاز، وفي تفاعلهم معه في كل حالاته، كما يخسر في المقابل التضامن المجتمعي في المشكلات الكبرى.
3. يرتبط استقرار المغترب وسعادته وسعادة أسرته بوظيفته ودخله الشهري منها، فإذا فقد وظيفته لأي سبب كان تصبح أسرته كلها في مهب الريح، وتسد في وجهه كل الآفاق. فيما تتكفل عوامل مثل التعاضد المجتمعي وتكاليف الحياة البسيطة وتنوع الخيارات المعيشية، بجعل فقدان الوظيفة في الوطن أقل خطرا وتأثيرا.
4. يخسر كثير من المغتربين فرصهم في الحصول على وراتب تقاعدية، فيما مكافآت نهاية الخدمة لا تكفل في معظم الأحيان حياة مستقرة له ولأسرته.
5. يخسر المغترب معنويا، حين ينظر إليه في وطنه على أنه مواطن درجة ثانية، وهذا يظهر من خلال أمور كثيرة، بينها تجاهل الحكومة حقه في الانتخاب، ومضاعفة الرسوم مقابل الحصول على بعض المعاملات، وعدم شموله بالتأمينات الصحية، هذا فضلا عن النظرة الشعبية للمغترب التي تحمل في طياتها الكثير من الدونية الممزوجة بالحسد مع شديد الأسف.
6. يخسر أبناء المغترب حقهم في التعليم الجامعي الحكومي، إذ لا يعاملون معاملة المواطن المقيم في الوطن، بسبب نظام "الكوتة" الذي يمنح المغتربين فقط 5 % من مقاعد الجامعات الحكومية، فيضطر إلى صرف كل مدخراته على تعليمهم في الجامعات الخاصة على نفقته.
7. يخسر أبناء المغترب، الاحتكاك الدائم بالعم والعمة والجد والجدة والخال والخالة، ولهؤلاء أدورا كبيرة في بناء شخصياتهم دون أن ندرك.
8. يبدأ المغترب تجربته في الاغتراب حين يكون شابا في معظم الحالات، أو لديه أسرة صغيرة، فتأخذه السنوات، دون أن يدري، وتزيد أعباءه مع التقدم في العمر، حتى إذا كبر الأبناء زادت متطلباتهم. وفي سن الخمسين يكون الأبناء قد دخلوا الجامعات، فتتضاعف الأعباء المالية عليه في وقت يبدأ في مواجهة تحديات كبيرة في وظيفته.
9. يعود المغترب إلى وطنه في مراحل متقدمة من عمره، بعدما يكون قد فقد فرصته في بداية مشوار جديد في موطنه، وقد يجد نفسه يعيش تجربة جديدة في الاغتراب أكثر ألماً، لأنه يكون قد فقط الكثير من الأصدقاء وتراجعت صلاته بمحيطة الأسري، ويعيش بين مواعيد الأطباء وأدوية الضغط والسكري والربو...