حين تسأل: من يضع العراقيل والمكائد امام حكومة الرزاز (مثلا) لافشالها، ومن يؤجج قضايا معينة في اوقات معينة ثم يطفئها متى اراد، ومن يقف وراء ملفات الفساد الكبرى التي تداهمنا ولا يظهر فيها الا اسماء صغيرة، ومن يتولى مهمة تشكيك الناس بدولتهم وتئييسهم من اي تغيير؟ يأتيك الجواب سريعا: «أياد خفية» لا نعرفها، وحين نسأل من أين خرج «البلطجية « الذين يشهرون أسلحتهم في وجه «المجتمع» ومن اين خرج الشباب الذين يوزعون الشتائم والكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي ضد عباد الله، يقال لك على الفور: خرجوا من المجتمع، ثم تسأل من
يقف وراءهم ومن يغريهم بالتجاوز على القانون، فلا تسمع إلا إجابات مبهمة.
لا يمكن لأحد ان يقبل رواية تقول إن «مجتمعنا» مسكون بالعفاريت وإن هناك «أشباحا» فيه تتحرك لإثارة الفتنة بين الناس وإن «مؤامرة كونية» تستهدف مجتمعاتنا العربية – دون غيرها- وحتى لو صدقنا ذلك -جدلا- فمن واجبنا ان نحتشد جميعا لإلقاء القبض على هؤلاء العفاريت والأشباح، ومن واجب الدولة ان تنهض بمسؤولياتها لتحديد مصدر تلك «الأطباق الطائرة» التي تهبط علينا فجأة.. لكن هذا –بالطبع- لم يحصل، لا لأن القصة من أساسها «مفبركة» وغير صحيحة إنما –ايضا- لأن من يتحرك معروف تماما، ولديه من القدرة على «التخفي» والسطو والتخويف ما يكفي لمنع أي طرف من اتهامه أو الاقتراب اليه.
من المفارقات ان حكوماتنا في العادة لا تسلم من هجوم هذا الطرف الثالث، فمع كل حكومة نكتشف أن ثمة «قوى» خفية في الداخل والخارج تتربص، وأن صراعات غير مفهومة بدأت تتشكل وحين تسأل لماذا؟ يفاجئك البعض بكلام طويل عن «قوى الشد العكسي» وعن «المتضررين من الإصلاح» وعن «اشتباكات» في مناطق النفوذ وغالبا ما يبقى الكلام في مجاله العام لا اسماء ولا اتهامات محددة.. والأدهى من ذلك ان الطرف الحكومي يخرج دائما «مهزوما» واحيانا بالضربة القاضية من قبل «الناس» الذين ينضمون الى «الطابور» ويصفقون لإسقاط الحكومة فيما يبقى الطرف الثالث يتفرج على المشهد ويحتفي «بالانتصار».
في بلدنا ثمة صراع على الإصلاح وهذه مسألة طبيعية ومتوقعة، لكن لا يجوز ان يتحول هذا الصراع الى «احتراب» ولا يجوز ان يخرج من دائرة «السياسة» واخلاقياتها وادواتها المشروعة الى دوائر اخرى مغشوشة، او الى «كمائن» قابلة للانفجار.
المشكلة بالطبع ليست في قوة «المراكز الخفية» او قوى الشد العكسي (ان شئت)، إنما في ضعف الأطراف التي تقف على «رصيف» الإصلاح وفي محاولات «الإفساد» التي تجري على رصيد المجتمع، لتخويفه من التغيير او لإغرائه بشتى انواع العروض او لـ «تفكيك» بناه ومؤسساته وافقار وعيه وتكسير قيمه.
امتحان حكومة الرزاز وامتحان المجتمع كله هو امام هؤلاء الذين لا يريدون حكومة قوية ولا مجتمعا قويا، ووصفة «النجاح» المطلوبة معروفة وطريقها الوحيد هو امتلاك ارادة وشجاعة «الاصلاح» الحقيقي، وما لم تضع الحكومة يدها بيد المجتمع لمواجهة هؤلاء فإن الطريق نحو الاصلاح سيكون «وعرا» ومسدودا كما ان البديل سيكون «مكلفا» جدا وهذا ما يفترض ان نتنبه اليه قبل فوات الأوان.
الدستور