أبت فلول داعش أن تغادر مع زمنها الأغبر إلا بواحدة من أبشع المجازر وبطبعة طائفية استهدفت المناطق الدرزية في السويداء وقراها، وهي المنطقة التي بقيت أكثر حيادية وهدوءا على مدار سنوات الحرب. ثمة بعض من شاركوا في الجيش الحر أو التحقوا بقوات النظام، لكن الأغلبية لم تنخرط مع أي جهة وتشكلت ميليشيات مثل قوات شيخ الكرامة لا تحسب نفسها على المعارضة أو الموالاة وتعنى بحماية مناطقهم فقط.
نكتب بكل مشاعر الحزن والغضب على هذه الهجمة القذرة والغادرة، والعقيمة من حيث وظيفتها؛ إذ تأتي بينما داعش في حالة انحسار وانسحاب، تتم بتفاهمات أو بدون تفاهمات من مناطق مختلفة على التوالي. وثمة اعتقاد أن المهاجمين الذين قدروا بالمئات هم من بقايا داعش الذين انتقلوا بباصات من مخيم اليرموك وجنوب دمشق باتفاق (نفاه النظام) للانتقال الى البادية الجنوبية الشرقية كما حصل في مناطق أخرى، وهذا فتح الباب لتكهنات حول موقف النظام؛ إذ تمكن المهاجمون، بدون إعاقة، من فتح جبهة هجوم بعرض 20 كيلومترا ومع أربعة تفجيرات انتحارية في مراكز رئيسية في المدينة، وتمت مهاجمة قرى عدة وفتح الرصاص على المواطنين العزل، فزاد عدد الضحايا على 250 شخصا إضافة لمئات الجرحى.
قد تكون ضربة مقفي وعملية انتقامية طائفية قذرة تروي عطش الدواعش للقتل والرعب الأسود والدم الذي لم يعودوا قادرين على سفك الكثير منه، فلاحت الفرصة ومقاتلوهم على مشارف منطقة غير مقاتلة ومكشوفة عسكريا وبهوية طائفية معينة لترك بصمة وذكرى مؤلمة تعمق الجروح الغائرة في النسيج الوطني السوري الذي تم تمزيقه شر ممزق.
الدروز لم يكونوا أبدا أقلية منغلقة تعمل بحسابات طائفية ضيقة شاركوا في الثورة العربية الكبرى ودخلت قواتهم مع جيش الثورة الى دمشق ورفعوا فوقها أول علم عربي بعد قرون من الهيمنة العثمانية وعرضوا استضافة الملك فيصل الأول في جبل الدروز للاستمرار في مقاومة الاحتلال الفرنسي. ولم يقنعوا بمنحهم دولة السويداء أو "دولة جبل الدروز" من الفرنسيين الذين قسموا سورية الى دويلات طائفية. بل أطلقوا المقاومة المسلحة للاحتلال وفجروا الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، ووالد هذا الزعيم الوطني والعروبي الفذ هو أيضا ثائر ضد الأتراك وأعدم من قبلهم مع آخرين من زعماء الجبل الى جانب أحرار العرب في وجبة أولى العام 1911؛ أي قبل سنوات من وجبة الإعدامات التي فجرت الثورة العربية الكبرى العام 1916.
ورغم ولائهم الوطني والقومي وتاريخهم المشرف، وجد الدروز أنفسهم في وضع محرج خلال سنوات الصراع، فهم مثل باقي الفئات والطوائف تتخللهم مختلف وجهات النظر واتجاهات الموالاة والمعارضة، في البداية كانت تتقوى معارضة النظام ثم مع تزايد الطابع الديني المتطرف للثورة بمعظم فصائلها تغيرت الحسابات في تقدير المصلحة الإجمالية للطائفة التي أصبحت تحت ضغوط متناقضة وشارك بعض أبناء المنطقة مع قوات النظام، فيما شارك آخرون مع المعارضة مع محاولات الحفاظ على الحياد للمنطقة، وهو أمر لم ينظر له النظام بعين الرضا عارفا بوضع الدروز كأقلية تعاني من المخاوف الطائفية نفسها من الأغلبية، وعلى الإجمال نجحت قيادات المنطقة بالعبور بأهلها خلال محطات الصراع بأقل قدر من التورط والخسائر مقارنة مع مناطق أخرى حتى أول من أمس حين أبى الدواعش ترك السويداء وشأنها فنفذوا واحدة من أكبر وأقذر جرائمهم.
الغد