في رحلة العلاج التي مررنا بها لمعالجة إبني من مرض السرطان الذي ألمَ به في العام الماضي وهو الان في مرحلة الشفاء باذن الله ، طلبتْ مني الطبيبة المُعالجة أن أوقّع على بعض الأوراق المتعلقة بالفحوصات الطبية وغيرها ، ثم اخبرتني الطبيبة بأن "الأم "بنص القانون الأردني غير مسموح لها أن تقوم بالتوقيع على أية أوراق تتعلق بالسماح للمستشفى باجراء عملية جراحية أو أي اجراء طبي مستعجل لابنها في حال عدم وجود الزوج ،وأن الشخص الوحيد المخول بذلك هو الاب !واذا رغبتُ أنا أن تكون الأم مخولة بالتوقيع على أية أوراق فيجب أن أذهب الى المحكمة الشرعية لأعطي وكالة لزوجتي تستطيع بها التوقيع على كافة الأوراق المتعلقة بالموافقة على أي اجراء طبي ! وذلك حسب نص المادة رقم 123 من القانون المدني الأردني الذي ينص على أن " ولي الامر هو والده ثم وصي والده ثم جده الصحيح ثم وصي الجد ثم المحكمة أو الوصي الذي نصبته المحكمة"! حيث قصر المُشرع الولاية على الرجال دون النساء وهو الامر الذي ينسحب في حال الحاجة الى الاذن لإجراء التدخل الطبي!
لم يعجبني الموضوع إطلاقا ولكنه القانون والتشريعات والتي لا نمتلك أمامها أن نفعل شيئا ،وأخذتُ أتساءل لماذا يُسمح للاب فقط التوقيع ولماذا يتم استثناء الام؟ وكلاهما في الحرص والمحبة والخوف على مصلحة الابن سواء! فاستسلمتُ للأمر وذهبتُ الى المحكمة الشرعية وقمتُ بكتابة طلب الى القاضي الشرعي هناك أطلبُ فيه منح تفويض لزوجتي لكي تقوم بالتوقيع على كافة الأوراق اللازمة في المستشفى، واكتشفتُ أن هذه الورقة شأنها شأن أي ورقة أخرى في أي محكمة بحاجة الى شاهدين إثنين يعرفون الحالة والتفاصيل بطبيعة الحال، فأحضرتُ إبني( 23 ) عاما وابنتي ( 22) عاما للشهادة معي ،ووقفنا أمام القاضي ومعنا تلك الورقة والاستدعاء الذي قمتُ بإحضاره وكتابته.
عندما قرأ القاضي الورقة وشاهد الوثائق التي أحضرتُها من المستشفى ، نظر إليّ وقال باللهجة العامية -مستغربا مني إحضار ابنتي للشهادة على هذه الورقة -:" لويش جايبها هاي!" أي لماذا أحضرت ابنتك للشهادة ! فشهادتُها مرفوضة إلا إذا أحضرتْ امرأة أخرى معها بحسب فقه القاضي ! تمالكتُ غضبي حينها وتماسكتُ أمام ذهول ابنتي وطريقة القاضي في التعامل لاسيما وأنني تحت ضغط نفسي شديد حينها وبحاجة لإنهاء المعاملة والعودة الى المستشفى مرة أخرى ، وكنت أتمنى أن أجلس مع هذا القاضي -ولكن كان القدر أن نكون عنده حينها ، وازداد غضبي عندما شاهدتُ ما فعله القاضي بعدها ؛حيث نظر في وجه أحد المراجعين وقال له : أنت ، تعال وقّع هنا على هذه الورقة ، فجاء ذلك الشخص الذي لا يعرفني ولا يعرف حالتي ووقّع كشاهد على تلك الورقة المجهولة بالنسبة له وقبل القاضي منه شهادته وتوقيعه
تم الحصول على الورقة بشهادة ابني وتوقيعه وشهادة ذلك "الذكر" وتوقيعه و الذي لا أذكر اسمه، وخرجتْ ابنتي مكسورة الخاطر وتكاد أن تبكي من الموقف الذي حصل معها وكانت تسألني هل ذلك الشخص يعرف القصة والتفاصيل أكثر مني ، وهل تُحرم المرأة من الشهادة لانها "أنثى" وتُقبل من الرجل لانه " ذكر" ؟ ثم أليست التي تعالج أخي طبية ومتمكنة "انثى" ودورها عظيم وانساني وهي تختار الدواء المناسب والعلاج الصحيح وتُقدر ما تشاء ونحن نثق بها ثقة مُطلقة وتوقع على الوصفات الطبية وتشهد على الإجراءات الطبية وتمنع وتسمح ما تشاء! وأنّ ما تقوم به تلك الطبية تُعادل خطورته ودقته وأهميته عشرات المرات فكرة التوقيع والشهادة على معاملة عابرة !كان لزاما عليّ توضيح القضية لها من وجهة النظر التي أعرفها وأقتنعُ بها ويجهلُها .
دون أية مراعاة لخصوصية أحد أو خصوصية تلك السيدة وقصتها ومشاعرها، فهكذا و ببساطة وأمام الجميع والمكتب مفتوح شهدنا نحن حالة طلاق وسمعنا الأسماء الرباعية والتفاصيل !.
هذه صرخة أمام دائرة قاضي القُضاة لعلهم يراجعون قضايا المرأة بطريقة تجمع وتوازن بين فقه الدراية وفقه الرواية ،و يركزون على بعض المفاهيم الفقهية البسيطة التي تجاوزها الزمن ويُنبهون عليها ،ولعلهم يُركزون أيضا على زرع الذوقيات الإنسانية عند بعض الذين يُسيئون الفهم والتدبير والتصرف أحيانا ،ولعل التركيز و المحافظة على خصوصية كل حالة من الأمور المهمة والتي ينبغي الإشارة اليها لأننا نتحدث في المجمل عن قضايا إنسانية بشرية لها خصوصية يجب احترامها ،مع قناعتي أن هنالك قُضاة يمثلون قدوة في الفهم والفقه والتعامل الإنساني الراقي .