الوكيل السري والحلقات المفقودة
أحمد فهيم
25-07-2018 10:04 AM
ما زالت قضية الإنتاج غير المرخص لمادة التبغ في الأردن يشوبها الكثير من الغموض والحلقات المفقودة، فما نشرته بعض وسائل الإعلام عن تهرب ضريبي افتراضي تبلغ قيمته نحو 150 مليون دينار، يعني ضمنا أن هذه السلعة (المغشوشة) دخلت إلى السوق المحلية بالفعل، ووصلت إلى المستهلك بأنواع وعلامات تجارية عالمية بالضرورة، إذ ليس ثمة اليوم منتجات لمادة التبغ بماركات محلية، بل يوجد امتياز أو وكيل إقليمي لشركات أجنبية، وإذا ما افترضنا أن معاشر المدخنين لم يستطيعوا اكتشاف الفارق في الطعم والنكهة - مع أن المدخن شديد الحساسية لجهة نوعية التبغ الذي يشعله- فأين كانت الرقابة المفترضة على الأسواق لاكتشاف وجود منتج دخيل غير مطابق للمواصفات المسجلة سلفا لدى مؤسسة المواصفات والمقاييس التي يشيد الجميع بمهنية ونزاهة وكفاءة مديرها السابق السيد حيدر الزبن، خاصة أن من أبرز مهام هذه المؤسسة بموجب قانونها إصدار المواصفات القياسية والقواعد الفنية واعتمادها ومراجعتها وتعديلها (ومراقبة تطبيقها)، وذلك لجميع المنتجات والخدمات باستثناء المنتجات الصيدلانية والأدوية البشرية والبيطرية والأمصال والمطاعيم، فهل يعقل أن تكون الجهة التي تحوم حولها الشبهات في هذه القضية قد استطاعت تقليد المنتج الأصلي بطريقة بالغة الدقة من حيث شكل العبوة ونوعية التبغ على نحو ضلل حتى المؤسسات غير الرسمية المعنية بحماية المستهلك، مع أن هذه الفرضية لا تعفي المعنيين من المسؤولية، فالأصل أن لديهم مختبرات وفحوصات فنية ولا يعتمدون كالمستهلك على حاسة الشم أو التذوق!!.
وبالعودة إلى الجزء المتعلق بالعلامات التجارية العالمية للسجائر التي دخلت الأسواق بشكل غير شرعي، وإذا افترضنا أن الجهة التي تحوم حولها الشبهات استطاعت تضليل كافة الجهات الرقابية المحلية الرسمية وغير الرسمية واختراق الأسواق وممارسة التهرب الضريبي في غفلة من عين الرقيب، فماذا عن الشركات المرخصة والمخولة رسميا كوكيل حصري لإنتاج وبيع السجائر ذات الماركات العالمية المعروفة، ألم تكتشف وجود سلعة مغايرة تستخدم علامتها التجارية وتنافس منتجاتها في السوق المحلية؟! وكيف استطاعت هذه الجهة غير الشرعية أن تعمل وكأنها وكيل سري لإنتاج وبيع ماركات وعلامات تجارية عالمية، وسحب البساط من تحت الوكيل الحصري؟!.
وعلى فرض أن السجائر المقلدة دخلت إلى أسواقنا بشكل خجول كتلك المنتجات الرديئة التي يتم بيعها على "البسطات" بأسعار زهيدة، فهل مثل هذه الكميات والنوعيات تقدر قيمة التهرب الضريبي فيها بالملايين؟! وهناك الكثير من التساؤلات الأخرى التي تحتاج من الجهات المعنية توضيحها للمواطن المتضرر من نهب خزينة بلاده بالتهرب الضريبي، ناهيك عن الضرر المباشر عليه كمستهلك، إذ أن من حق الأخير على الدولة حمايته من السلع المغشوشة لا سيما حين يتعلق الأمر بمادة تعتبر في أحسن أحوالها ضارة ومميتة، فكيف حين تكون غير مطابقة للمواصفات والمقاييس، فلنا أن نتخيل أثرها على الفرد وعلى الدولة التي باتت تنوء بمرضى السرطان ولا تجد لهم الأسرة الكافية في مراكز الاختصاص، فضلا عن التكاليف المالية المترتبة على علاجهم.
ومع أنني على المستوى الشخصي لست مدخنا، إلا أنني كنت أتابع عبر وسائل الإعلام التذبذب الغريب في أسعار السجائر، فمرة يرتفع سعرها ومرة تنخفض إلى أدنى مستوياتها، بينما كانت الجهات الرقابية كضريبة الدخل والمبيعات مثلا تعلل ذلك بموافقتها على رغبة بعض الشركات المسوقة بإدخال معادلات إنتاج جديدة أقل سعرا، دون الكشف عن طبيعة هذه المعادلات التي ظلت غامضة بالنسبة للمستهلك، وأدت الى تضليل مزاجه وإرباك ذائقته وقدرته على فرز وتقييم المنتجات التي يبتاعها، بحيث يستطيع أي منتج غير مرخص أن ينطلي عليه لاحقا.
إن القضية برمتها لا تتعلق بمجرد تهرب ضريبي إذا ما قورنت بأزمة الثقة التي قد تحدثها بين المنتج والمستهلك من جهة، وبين المستهلك وكافة أطراف العملية الإنتاجية من جهة أخرى، وحتى لا نجعل المواطن يشك لاحقا في سلامة سلع أكثر أهمية كأمنه الغذائي والدوائي، فإن على الحكومة والأجهزة الأمنية أن تضرب بيد من حديد ضد كل من سولت له نفسه اقتراف جريمة كهذه، وأن لا يقتصر الأمر على الصغار، بل يشمل كل مسؤول عن أي تواطؤ أو حتى تقصير وإن لم يكن متعمدا.