دبي - على الحكام العرب التوقف مطولا عند التحذير الذي أطلقه سيمور هيرش, صحافي أمريكي مختص بالتحقيقات الاستقصائية, خلال الدورة الثامنة لمنتدى الإعلام العربي الذي أختتم في دبي قبل أيام.
هيرش, الكاتب المنتظم في مجلة نيويوركر واسعة النفوذ والذي كشف ملف التعذيب في سجن أبو غريب العراقي على يد قوات الاحتلال الإمريكي عام ,2004 نصح قيادات المنطقة بأن تكون أكثر تفهما وتقبلا للنقد الذي تمارسه السلطة الرابعة.
يتجه النقد للتصاعد مع فورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتغلغلها في أدق تفاصيل الحياة اليومية. فالصحافة الالكترونية خيول انطلقت ولا يمكن توقفها ولن يستطيع أحد منع تدفق المعلومات بشكل يغير من المشهد القائم أو يؤثر فيه.
الأهم في الطرح أن هيرش أبلغ مئات الإعلاميين والإعلاميات, مخضرمين ومبتدئين, أنه لمس أن الصحافة العربية باتت تتمتع بوضع أفضل خلال الخمسة عشر عاما الماضية نتيجة تطورات سياسية وإعلامية ستجلب بالتأكيد مزيدا من الانفتاح والشفافية.
على أن أجواء التفاؤل التي أبداها هيرش قوبلت بمناخ من التشاؤم النسبي داخل القاعة. فأهل مكة أدرى بشعابها وأعلم بأمور منطقتهم من الصحافي الأمريكي الذي دخل التاريخ في بدايات حياته المهنية حين كشف عن مذبحة قرية ماي لاي على يد القوات الأمريكية في فيتنام. ذلك السبق أثار إدانة واسعة وقلل من التأييد الشعبي للحرب داخل أمريكا.
برأي أهل مكّة, ما تزال تحديات كثيرة تعترض طريق الإعلاميين العرب, بخاصة أقلية مهنية جادة تسعى لممارسة دورها الرقابي لتحقيق المنفعة العامة وتعزيز الحاكمية الرشيدة عبر كسر الخطوط الحمر الوهمية والحقيقية التي باتت تعشعش في عقول أقرانهم ومرؤوسيهم في قطاع محشور بين سندان التمويل الحكومي ومطرقة القطاع الخاص.
ويظل السؤال لماذا بقي هذا النوع من الإعلام الاستقصائي المحترف الجاد الذي يمارسه هيرش وأمثاله في العالم المتقدم وأخيرا في دول ذات حريات عامة إشكالية مثل إفريقيا السوداء أو الصين, شبه غائب عن صحافتنا.
في مقدمة أسباب نكوص الإعلام العربي, غياب قوانين تنص صراحة على حق حصول المواطنين, بمن فيهم الصحافيون, على المعلومات في العالم العربي (باستثناء الأردن) على قاعدة معاقبة الطرف الذي يحجب المعلومات المتاحة حسب القانون.
هذه التشريعات وسلاسة تطبيقها كانت السبب الأساسي في إحداث ثورة الصحافة الاستقصائية في الغرب في منتصف ستينيات القرن الماضي قبل أن تنتقل العدوى إلى سائر دول العالم.
غياب القوانين يتقاطع مع تابوهات اجتماعية ودينية ومجتمعية, وممنوعات أخرى واردة في قوانين حماية أسرار الدولة وتصنيف الوثائق الرسمية إضافة إلى قانون العقوبات. كما أن استمرار العمل في قانون الأحكام العرفية في بعض الدول العربية, يبقي السيف مسلطا على رقاب الإعلاميين.
الهم الإعلامي كان أيضا محور ندوة نقاشية أمس في سياق اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي. وزير الإعلام الأسبق مروان المعشر, نائب رئيس البنك الدولي, رأى في تلك الندوة أن المشكلة لا تكمن حصرا في لائحة المحظورات الرسمية ضمن قوانين المطبوعات والنشر, بل تتعداها إلى غياب المبادرة الذاتية وتأهيل الصحافيين على أسس حرفية.
من الأسباب المؤثرة في جمود الإعلام العربي تشابك المصالح بين السلطة والشخصيات العامة والخاصة التي تشرف على القطاع الإعلامي, في غالبية الدول حتى التي أظهر الإعلام فيها مستوى عاليا من الجرأة والانفتاح والتعددية مثل لبنان والكويت. وفي أحيان كثيرة يستبدل عصر الهيمنة على قطاع الإعلام الذي يظل أهم عناصر الدعاية والتكوين السياسي والثقافي للمواطن, بالعلاقات الحميمة القائمة بين السلطة والنخب السياسية والاقتصادية التي باتت تسيطر على هذا القطاع الحيوي على أسس استثمارية وتجارية بحت أو لأنها المدخل الأقصر للمنصب الرسمي.
وهكذا خرجت السلطة من الباب لتدخل من الشباك بالتواطؤ مع القطاع الخاص الذي يفضّل استمرار سياسة الأمر الواقع بدلا من الدفع صوب التغيير وتحقيق ما تطالب به الغالبية الصامتة.
الأسباب الأخرى تتمثل في:
- عدم إيمان رؤساء التحرير والناشرين بتخصيص ميزانيات لهذا النمط من العمل القائم على نبش ما وراء الخبر وتفريغ الصحافي الأكفأ للعمل الاستقصائي مع أن هذا الصحافي يصبح بعد انجاز مهمته مرجعا موثوقا في هذا القطاع وبإمكانه كتابة عشرات القصص والريبورتاجات بزوايا مختلفة, متكئا على الكم الهائل من المعلومات التي يجمعها. هذا يعني في نهاية المطاف رفع سوية المنتج الإعلامي وزيادة عدد القراء وتشجيع وكالات الإعلان.
- غياب الثقافة القانونية لدى غالبية الإعلاميين وعدم توفير محام دائم في المؤسسات الإعلامية مهمته تقصي أي ثغرات قانونية قد تفتح الباب أمام محاكمة الإعلامي, التي تكون أحيانا ضرورة من باب حق النقد المباح لتصويب إختلالات معينة.
- غياب أو ضعف عملية تأهيل الصحافيين بصورة مستمرة في غالبية المؤسسات الإعلامية سواء الخاصة أو العامة التي تفضل الصرف على أعمال الديكور وسيارات فارهة لرؤساء التحرير, بدلا من الاستثمار في الموارد البشرية.
- تدني مستويات الثقافة العامة, عدم الإلمام بمهارات الكمبيوتر ومحدودية اللغات الإضافية خاصة الانجليزية لدى إعلاميين, يحول دون قدرة الصحافي على قراءة كم هائل من المعلومات المرتبطة بالموضوع من خلال محركات البحث الالكترونية.
- تدني الرواتب وغياب الحوافز المهنية ورغبة الناشرين في جني الأرباح ولو على حساب نوعية المنتج.
- والأهم, خشية حراس البوابات في هذه الصحف من إحراج المتسببين بالأذى وخسارة النفوذ والمصالح.
- غياب ثقافة سياسية اجتماعية تقبل بالرأي الآخر, وتحرص على معالجة الظواهر المقلقة في المجتمع بدءا بالاعتراف بوجودها قبل توثيقها وإبرازها للناس بقالب محترف.
- رهبة المسؤول, بدءا بأصغرهم, من المحاسبة واقتناعه بأنه وصي شرعي على عقول الناس وغياب القناعة الرسمية بضرورة بناء جسور التواصل مع المجتمعات بشفافية وعدالةٍ.
- استمرار التصارع بين أجنحة متنافسة داخل غالبية الدول يقع ضحيتها من يتخندق وراءهم من الساسة والإعلاميين.
باختصار, يبدو ان المناخ العام وتخبط السياسات الإعلامية, ينطويان على عدة عوامل إحباط. على أن ذلك لا يجب أن يثني الباحثين عن الحقيقة عن كشف بعض منها حتّى لا ينجر الناس, كما هو الحال الآن, إلى فضاءات الشائعة أو الجهل.
بينما اتفق مع الزملاء على وجود تلك العقبات, اختلف معهم في درجة التشاؤم على أساس أن من اختار الانخراط في مهنة المتاعب, عليه العمل بتفان وأخلاص ومهنية لحمل الرسالة بأمانة وصدق سواء كان ذلك محل تقدير أو اتهام من السلطة أو المجتمع. على الإعلامي أن يقرر إذا كان يريد البقاء في خانة بوق السلطة, أو تلبية واجبه الأخلاقي, القانوني والمهني حتى لو كان بعكس أهواء الشارع. وعليه أيضا مسؤولية تجسير الفجوة بين الحاكم والمحكوم والمساهمة في إعداد الرأي العام ليشكل في مجمله قوة تقرر أن تقبل أو لا تقبل, ويكون لرأيها قوة في توجيه السياسات السائدة لتحقيق العدالة الغائبة سواء عن قصد أو من دون تعمد.
فالإعلاميون العرب يبحثون عن نماذج قدوة في أوساطهم يعكسون بعملهم اليومي سلوكا مهنيا رفيعا, قائما على الصدقية, الوضوح, الموضوعية, التوازن والدقة بعيدا عن أسلوب الإثارة والتحيز.
وباستطاعتهم اختيار مواضيع تسلط الضوء على قضايا مجتمعية, بيئية, تعليمية وتعكس إخفاق السلطة في توفير حياة كريمة لشعوبها قبل الإصرار على الخوض في ملفات حساسة مثل الفساد وتداخل الحكم والبزنس بطريقة تهدد حياة الصحافي.
فالصحافة الجادة لا تعني فقط الكشف عن خبايا مثل فضيحة تنصت ووترغيت التي أطاحت بالرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون (1972-1974), أو بالجريمة المنظمة من دعارة واتجار بالبشر, وتهريب مخدرات.
فهناك مئات الملفات المهمة تشكل مصدر قلق يومي للمجتمعات العربية; بدءا بتلوث البيئة, الأغذية, الخبز, سلامة مياه الشرب والري وصلاحية الحافلات العامة وسلامة ألعاب الأطفال البلاستيكية, وانتهاء بالأخطاء الطبية المتكررة وأمراض جلدية وداخلية منتشرة بين طلاب المدارس, وعنف مسكوت عنه ضد المرأة والطفل.
إذن, هدف الإعلامي المحترف, أولا وأخيرا, يتعدى البحث عن النجومية, التقرب من السلطة, الثأر أو الابتزاز. إنما عليه الكشف عن ممارسات سلبية ممكن تلافيها وإيجابية ممكن تعميمها لتحقيق العدالة والشفافية والمساءلة: وهي أساسيات عمل السلطة الرابعة التي, للأسف, اختارت التغيب عن المشهد.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم.