قراءة في مشروع القانون المُعدّل لـ "أصول المحاكمات الجزائيّة"
د. نهلا المومني
17-07-2018 09:04 PM
تتمثل غاية قانون أصول المحاكمات الجزائيّة في الوصول إلى الحقيقة، وهي غاية سامية تهدف إلى تحقيق التّوازن والأمن المجتمعيّ، إلّا أنّ هذا الوصول والطريق نحو الحق والحقيقة وكشف حيثيات الأفعال المُرتكبة ومدى دخولها في دائرة التّجريم يتوجّب أن يتم من خلال التّطبيق الصحيح للقانون والإلتزام بالمبادئ الجوهريّة لنظام العدالة الجزائيّة، فكلّما طبّقت الإجراءات بشكلٍ يتوافق ونص القانون كان الحُكم الصّادر عنواناً للحقيقة، وهذا هو الفرق بين نظام العدالة الجنائيّ الحديث ونظام العدالة الجنائيّ القديم؛ فكلاهما يسعى نحو الحقيقة إلاّ أنّ الفرق هو أنّ نظام العدالة الجنائيّ القديم كان يسعى لهذه الحقيقة دون وجود ضوابط قانونيّة ودون أن يأبه بمدى تمتّع الأفراد بمحاكمةٍ تتوفّر فيها الشّروط والضّمانات العادلة. ولهذا وضع المُشرّع الجزائيّ الأردنيّ وكما هو الحال في التشريعات الجزائيّة المُقارنة في الدول الديمقراطيّة شبكتين لضمان سلامة الحكم؛ تتمثل الأولى في الشّبكة الإجرائية الوقائيّة، أمّا الثانية فتتمثل في منظومة الطعن في الأحكام القضائيّة الصّادرة.
يأتي هذا الحديث في إطار إحالة الحكومة مشروع القانون المُعدّل لقانون أصول المحاكمات الجزائيّة لسنة 2018م إلى مجلس النّواب متضمّناً تعديل المادة (63) مكرّرة من القانون الأصلي، حيث تضمّن التّعديل المُقترح إضافة فقرة (6) تنص على أن لا تسري أحكام هذه المادة على الأعمال الإرهابيّة التي تقع خلافاً لأحكام قانون منع الإرهاب وقانون العقوبات وتمويل الإرهاب الذي يقع خلافاً لأحكام قانون غسيل الأموال وتمويل الإرهاب والشّروع والتّدخل والتّحريض على أيّ من الأعمال السّابقة.
وتعني إضافة هذه الفقرة الخروج عن ضمانات الحق في المحاكمة العادلة التي أرساها المشرّع الجزائيّ بموجب القانون المعدّل لقانون أصول المحاكمات الجزائيّة رقم (32) لسنة 2017م، وبالتّالي حرمان المُشكى عليه من مكوّن أساسي من مكوّنات ضمانات الحق في المحاكمة العادلة متمثلاً في حقّه هو أو مُحاميه أن يطلب خطيّاً قبل بدء الإستجواب الإطلاع على أعمال التّحقيق ما عدا أقوال الشّهود وتحت طائلة البطلان في حال رفض طلبه. ووجوب حضور محامٍ مع المشتكي عليه في كل جلسة لإستجواب في الجنايات التي يبلغ الحدّ الأدنى لعقوبتها عشر سنوات فأكثر، وفي حال تعذّر على المشتكى عليه تعيين محامٍ يتّخذ المدعي العام الإجراءات اللازمة لتعيين محامٍ له. وإلزام المدعي العام قبل كلّ إستجواب لاحقٍ للإستجواب الأول أن يسأل المشتكى عليه عما إذا كانت موافقته مستمرة بأن يتم إستكمال إستجوابه دون الإستعانه بمحامٍ، وأن يُثبت ذلك في المحضر تحت طائلة بطلان ذلك الإستجواب.
إنّ هذا الخروج غير المُبرّر عن المبادئ الجوهريّة فيما يعدّ ضماناتٍ لمحاكمةٍ عادلةٍ وفق المعايير الدوليّة لحقوق الإنسان والدستور والتّشريعات الوطنيّة خلال مرحلة التّحقيق الإبتدائيّ بذريعة مكافحة الإرهاب ومقتضيات سرعة التّحقيق يُشكّل خروجاً عن المبادئ الجوهريّة في نُظم العدالة الجزائيّة؛ فاختلاف نوع الجريمة وجسامتها لا يُشكّل مبرّراً لإنتهاك حق الأفراد في محاكمة تتوفّر فيها الضّمانات الكافية للتّوصل إلى حقيقة إرتكاب هذا الشخص للفعل من عدمه، كما يشكّل خروجاً عن مبادئ دستوريّة بطبيعتها وفي مقدّمتها مبدأ إحترام قرينة البراءة ومبدأ سيادة القانون، هذا المبدأ الأخير الذي جاءت الأسباب الموجبة لمشروع القانون لتؤكّد أنّ التّعديلات على قانون أصول المحاكمات الجزائيّة هذه تهدف لتعزيزه ولتحافظ على الأمن والسّلم الإجتماعيّ ولسرعة التّحقيق.
إنّ إحترام ضمانات المحاكمة العادلة التي تكفل بشكل أساسي حقّ الدّفاع الذي هو حقٌ مقدّسٌ للإنسان، لا تعني ألّا يتبّع المُشرّع سياسة تشريعيّة مُتشدّدة لمكافحة الجرائم الإرهابيّة إلّا أنّ هذا التّشدد يجب أن لا يمس المبادئ التي ترتكز عليها السياسة التشريعيّة الجنائيّة؛ فالعديد من الدول إتّبعت سياسة متشدّدة في مكافحة الإرهاب نظراً لخطورة هذه الجريمة وقيامها على فكرة التّرويع والإنتقاص من أمن الأفراد والمجتمع إلاّ أنّها لم تخرج عن الأطر العامّة في التّشريع الجنائيّ؛ أي أنّها إلتزمت بمبدأ الشرعية فلا عقوبة ولا جريمة إلا بنصٍ قانونيّ صريحٍ ودقيق، كما إلتزمت بأصول الصياغة التشريعيّة القائمة على الدّقة والبلوغية والمفهوميّة والبُعد عن النّصوص التي تحتمل التّأويل والتّفسير، كما أنّها إلتزمت بالقواعد الإجرائيّة العامّة وباحترام ضمانات المحاكمة العادلة.
بناءً على ما سبق بيانه نجد بأنّ المُبرّرات التي سيقت لإضفاء الشّرعية على مشروع القانون المُعدّل سواءً بدعوى مكافحة الإرهاب أو سرعة التّحقيق في هذه الجرائم والتي تُبرّر الخروج عن ضمانات المحاكمة العادلة، تجعلنا نؤكّد على فكرة جوهريّة مفادها أنّ دولة القانون لا تواجه الخروج على القانون بخروجٍ مماثلٍ وإن تمّ تنظيم ذلك الخروج تحت مظلة القانون ذاته، لذا نأمل من مجلس الأمّة صاحب الولاية العامّة الأصيلة في التّشريع التّمسك بمقتضيات العدالة والمُساواة وإعمال صلاحيته برفض هذا التّعديل المُقترح.
الكاتبة دكتورة في القانون الدوليّ العام، وناشطة في مجال حقوق الإنسان.