العقد الاجتماعي الجديد: من تزييف الوعي إلى الوعي الزائف
م. خالد رمضان
17-07-2018 03:04 AM
وإن كان ثمة (تزييف للوعي) الشعبي فيما يتعلق بموضوعة "العقد الاجتماعي"، فثمة (وعي زائف) لدى أولئك القائمين على ترديد موضوعة العقد الاجتماعي في الأردن.
تتجلّى حالة (تزييف الوعي) لدى أناس صدقوا موضوعة العقد الاجتماعي وأصبحوا يُردّدونها دون أن يعوا أي بُعد لها خارج إطار مصطلح "العقد الاجتماعي".
وتتجلّى حالة (الوعي الزائف) لدى من يعتبرون أنفسهم نخبة سياسية و/أو صحفية، فهم يُردّدون مصطلح "العقد الاجتماعي" دون تأسيس مفاهيمي لهذا المصطلح.
حالة (تزييف الوعي) ينطبق عليها الشطر الأول من بيت المتنبي:
إنْ كُنتَ لا تدري فتلك مصيبة
وحالة (الوعي الزائف) ينطبق عليها الشطر الثاني من بيت المتنبي ذاته:
وإنْ كُنتَ تدري فالمصيبة أعظم
نعم، فقد يضحك السياسي أو الصحفي الأردني على المواطن بجُملةٍ رنّانة مثل جُملة "العقد الاجتماعي" والزجّ به في معمعة من المصطلحات الفارغة والغمغمة بها صباح مساء، إلى حدّ يشعر معه المواطن المسكين أن من أولويات تأكيد وطنيته ترديد جُملة "العقد الاجتماعي"، حتى وهو يعلم أنه لا يعرف معناها.
لكن المُضحك المُبكي –لا سيما أننا في لحظة حرجة من تاريخ أردننا الحبيب- هي في حالة الضحك التي يمارسها السياسي أو الصحفي الأردني على نفسه، وهو يُردّد جُملة "العقد الاجتماعي" دون أن يكون لديه أي خلفية معرفية تُمكّنه من التنظير لها والتحدّث عن معماريتها ابتداءً من الحالة السيكولوجية للشعب الأردني، وليس انتهاء بتكويناته الروحية والسياسية والاجتماعية واقبلية والدينية والديمغرافية، واستحضار كافة المقولات والسرديات التي ساهمت في تشكيل الهوية الأردنية الحديثة، والوصول إلى إطار مفاهيمي يُؤسّس على المستوى النظري لمصطلح العقد الاجتماعي، بحيث لا يعود ترديد جُملة "العقد الاجتماعي" ترديداً فارغاً على مستزى المطارحات الفكرية، فهي مجرد شبيهة بالطبل، تُصدر صوتاً لكنها فارغة من الداخل.
دعونا نعود خطوة إلى الوراء ونسأل: ما الذي يقصده السياسي أو الصحافي ساعة يُردّد جملة "العقد الاجتماعي"؟ وبموازاة هذا السؤال دعونا نضعه على منصة المُساءلة ونسأله: إلى أيّ حدّ تمتلك إطاراً فكرياً بحيث أصبحت قادراً على اختصار مشروعك الفكري بكلمة واحدة "العقد الاجتماعي"؟ هل أنت مُؤهّل على المستوى الفلسفي لكي تبسط لمقولة "العقد الاجتماعي" على المستوى المفاهيمي، بحيث يتم التأسيس لها في الأذهان أولاً وفي الواقع المعيش ثانياً، أم إنك تمتلك ناصية القدرة المُطلقة وما عليك إلا أن تقول للأشياء كن فتكون؟ إذا كان الأمر كذلك، اي أنك تمتلك ناصية القدرة المطلقة، فتفضّل وحلّ لنا مشاكلنا دفعة واحدة، ودعنا نرتاح حتى من عناء طرح مثل هذه الأسئلة عليك؟ أما إذا كان الأمر غير ذلك، أي أنك لا تمتلك قدرات سوبرمانية، فدعنا نضعك في موضع تساؤل لأن البلد لا يحتمل أخطاء فردية يمكن أن تتحوّل بالتقادم إلى خطايا جمعية. ولسنا في حالة تسمح لأحدٍ بالانفراد بالقرار، ففي وقت مضى سمحنا لأصحاب القوى الهرقلية، السوبرمانية، العتيدة، التي لا يخرّها الماء، بالانفراد بالقرار السياسي والاقتصادي والديني والاجتماعي؛ وها نحن نُعاني اليوم من ويلات مُتلاحقة تكاد تُوردنا موارد التهلكة.
لذا، دعونا ندخل الآن في مجال المصارحة ونطرح مجموعة من الآراء التأسيسية لها علاقة بموضوعة العقد الاجتماعي، سواء في شقّها التنظيمي أو في شقّها الفكري، لكي نصل إلى خُلاصات –بعيداً عن أي احتكارية كتلك التي يمارسها الجهابذة في الأردن ولا يريدون لأحد غيرهم الحديث عن العقد الاجتماعي الموجود والموعود أيضاً- يمكن أن تساهم في بلورة سجال في الفضاء العمومي، يكون له بالغ الأثر في إثراء الحالة المعرفية، في بُعديها الاجتماعي والسياسي، بحيث لا يخلص هذا السجال إلا وتكون قطاعات كبيرة من الشعب الأردني قد انخرطت في التأسيس لموضوعة العقد الاجتماعي، دون (تزييف للوعي) يمكن أن يطال العامة أو (وعي زائف) يمكن أن يصيب من يدعّون أنهم النُخبة!
في الشقّ التنظيمي:
من هي الجهة المُخوّلة بإنجاز أطروحة العقد الاجتماعي الأردني الجديد:
هل تنجزها النُخب السياسية، وهي المُتهمة بتخريب العقد الاجتماعي السابق وإيصال الدولة الأردنيـة إلى ما وصلت إليه من حالة تردٍّ كبير، ساهمت في إنتاج فساد غير مسبوق في التاريخ الأردني الحديث؟
أم ينجز أطروحته –أي العقد الاجتماعي الجديد- الشعب، وهو المُتهّم بأنه انفعالي وقاصر بالتالي عن تفهّم التبدلات السياسية والاقتصادية التي تحيط بعالمنا المعاصر، تفهّما عقلانياً؟
أم تُنجز الأطروحـة النُخب الصحفية، وهي المُتهمة بالتسرّع والتخبّط والابتعاد عن أي سياقات معرفية حقيقية؟
أم تُنجزه النُخب الأكاديمية التي لا همّ لها إلا مصالحها الشخصية، فالأكاديمي الأردني مشغول تماماً بمسألة ترقياته الشخصية، لا بالمساهمات المعرفية؟
أم تُنجزه النُخب الثقافية، وفيها ميل كبير لتغليب الحالة الأدبيـة على الحالـة الفكرية؟
أم تُنجر أطروحته حركات الإسلام السياسي، وهي المُتهمة بتغليب الشأن الإسلامي على الشأن المحلي؟
في الحقيقة، ثمة أسئلة كثيرة ينبغي الإجابة عليها قبل الشروع في طرح مصطلحات تبدو مفاهيمها غير واضحة. وسيكون طرح مثل هذه الأسئلة هو الخطوة الأولى في التأسيس لهذا العقد الاجتماعي، فانخراط الجميع بالإجابة، كل من منطلقه، سيساهم في بلورة السياق التنظيمي لقضية على الكُلّ أن يتحمل شراكة إنجازها وتفعيل سياقاتها إلى العلن.
في الشقّ الفكري:
بقدر أهمية أسئلة الشقّ التنظيمي؛ أهمية مطارحات الشقّ الفكري، وإلا أصبح ترديد جُملة "العقد الاجتماعي" في الصحف والمحطات والغرف العلنية والمغلقة؛ ضرباً من الهراء ليس إلا. فنحنُ لا نتحدث عن ذهاب لحفلةٍ كل ما تستلزمه تأنّق في الملبس، بل نتناول واحدة من أخطر القضايا التي شكلّت هاجساً قوياً في تشكيل المجتمعات البشرية على مدار التاريخ. فحركة المجتمعات هي تجلٍّ لحراك إنساني كبير، على المستوى السيكولوجي والمعيشي والديني والاقتصادي والسياسي والديني والقبلي والطائفي والإثني والثقافي والفني والعلمي، لذا لا ينبغي فهم أبعاد كل هذه التكوينات فحسب، بل والتنظير لها ليس على هيئة مقابلات صحفية أو تلفزيونية أو على شكل شذرات في العوالم الافتراضيـة فقط، بل والبسط لها فكرياً أيضاً في نصوص معرفية عميقة تستجلي ما هو كامن بالقدر ذاته الذي تستجلي ما هو ظاهر للعيان.
من هنا، فإننا نسأل كل من يطرح مسألة "العقد الاجتماعي" وكأنها مُنجزه الشخصي، أين تنظيراتك حول هذا العقد بكافة أبعاده التي أشرنا إليها أعلاه، لا سيما أن العقد الذي تطرحه يعنينا جميعاً ولا يعنيك لوحدك، ويمكن لأيّ هفوة أو سوء تقدير أن تطرحنا جميعاً في الأرض؟ فما بين طرح "العقد الاجتماعي" كمسألة جاهزة وناجزة في أذهان مَنْ يُردّدون ليل نهار هذه الصيغة الملحمية، وبين إمكانية طرحنا أرضاً نتيجة سوء تقدير في الطرح الترديدي، لا بُدّ أن نعمّق الأسئلة ونفتح باب التساؤلات على آخره، لكي يكون ثمة معنى لما نحن بصدده.
- أينها الدراسات المعرفية العميقة [نأمل أن لا يأت أحد في هذا المقام ما بدراسة من هُنا وأخرى من هناك ليقول لنا هاكم ما طلبتم، لأن التأسيس لعقد اجتماعي جديد بحاجةٍ إلى جهد معرفي تراكمي لا يتأت من دراسة متناثرة ومتفرقة] حول التكوين السيكولوجي للإنسان الأردني، لا سيما من أواخر القرن التاسع عشر، حيث تعرّض لرضّات عنيفة على أيدي الدوة العثمانية؛ وصولاً إلى راهننا الحالي بكل تعقيداته التي حفرت عميقاً في البنية النفسية للإنسان الأردني وجعلته نهباً لمشاعر قلقه حول مآلاته اليومية؟
- أينها الدراسات المعرفية العميقة حول البنية الاجتماعية للإنسان الأردني، وتلك النقلات التي حدثت في بنية الأسرة أولاً والمجتمع ثانياً والوطن ثالثاً، على مدار قرن ونيف من الآن؟
- أينها الدراسات المعرفية العميقة حول البُعد العشائري بصفته مُكوّناً رئيسياً من مكونات المجتمع الأردني الحديث؟
- أينها الدراسات الأنثروبولوجية حول التكوين التاريخي للمجتمع الأردني والإرهاصات التي آلت به إلى ما آل إليه آناً؟
- أينها الدراسات الاجتماعية حول الأنوية الاجتماعية التي شكلّت اللبنات الأساسية في تكوين المجتمع الأردني الحديث، ابتداء من مطلع القرن الماضي، سواء أتواجدت في العاصمة عمّان أو في جميع أرجاء الوطن؟
- أينها الدراسات المعرفية حول الانتقالة من دولة الخلافة المُمثلة بالدولة العثمانية، إلى الدولة الوطنية في صيغتها التي ابتدأت في العام 1921؟
- أينها الدراسات المعرفية حول طبيعة التبدلات التي عصفت بالمجتمع الأردني، ابتداءً من العام 1948 حيث النكبة الفلسطينية وموجة اللجوء الأولى إلى شرق الأردن، وتابعات هذا اللجوء على البنية النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية للمجتمع الأردني؟
- وأينها ملاحق هذه الدراسات حول موجة اللجوء الثانية التي حدثت عقب نكسة العام 1967؟
- وأينها تلك الدراسات المعرفية الموضوعية حول أحداث أيلول، والجُدر السيكولوجية التي شرخت المجتمع الأردني بشقيه الأردني والفسلطيني، وعزلته حتى هذه اللحظة؟
- وأينها تلك الدراسات حول أنماط العيش الخاصة بالشعب الأردني سواء أكان من أصول أردنية أو من أصول فلسطينية، كتلك المتعلقة بالمأكل والمشرب واللهجة والأعراس والأغاني والأهازيج والحكايا والخراريف والهياج في الملاعب وتشجيع الأندية...الخ؟
- وأينها تلك الدراسات حول التحوّل الطبقي في الأردن، وانتقال بعض العائلات من وضع اجتماعي واقتصادي عادي إلى وضع مغاير تماماً؟
- وأينها تلك الدراسات التي تُؤرّخ للموروث الشعبي بكافة تجلياته؟
- وأينها تلك الدراسات التي ترصد التبدلات السياسية في الساحة العالمية وانعكاس ذلك على القوى والفعاليات الوطنية؟
- وأينها تلك الدراسات التي لا ترصد صعود حركات الإسلام السياسي في الأردن فقط، بل وتعمل على تفكيك أنويتها الأصلية ومآلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقدية؟
- وأينها تلك الدراسات التي تفكّك منظومة التديِّن بصيغتيه الشعبية والرسمية؟
- وأينها تلك الدراسات التي ترصد حركة ذلك التديّن وعلاقته بما يجري على المستوى الوطني والعربي والإسلامي والعالمي؟
- وأينها تلك الدراسات التي ترصد حركة التحوّل الديمقراطي في الأردن نهاية حقبة ثمانينيات القرن الماضي، وتداعيات ذلك على المشهد السوسيوثقافي الأردني؟
- وأينها تلك الدراسات التي ترصد الحالة الوجدانية للشعب الأردني واندفاعاته في التعاطف مع عديد أنظمة وحركات وأحزاب خارجية شعر أنها تُدافع عن كرامة الأمة المسلوبة؟
- وأينها تلك الدراسات التي ترصد التبدلات الاجتماعية عقب ظهور التكنولوجيات الحديثة في المجتمع الأردني، وتأثيرها على الأنوية الاجتماعية الصغيرة، سواء على المستوى الوجداني أو المستوى الهيكلي؟
- وأينها تلك الدراسات التي تفصل بين ألفيتين: ألفية (1900) وألفية (2000)، وتؤشر على أهم التحولات التي حدثت في قرن ملئ بالإزاحات الكبيرة على المستوى الوطني؟
- وأينها تلك الدراسات التي ترصد موجات اللجوء الجديدة التي عصفت بالمجتمع الأردني مؤخراً؟
- وأينها تلك الدراسات التي ترصد حقيقة التبدلات الثقافية التي جعلت جيلاً جديداً يبرز خارج إطار المؤسسة الثقافية الرسمية، نتيجة لعجز أبنيتها التقليدية عن استيعاب أسئلة هذا الجيل الجارحة والمحرجة؟
- وأينها تلك الدراسات التي ترصد بعينٍ بصيرة حقيقة ما جرى في العقد الأخير، من تفكّك للأبنية التقليدية، سياسياً ودينياً واجتماعياً واقتصادياً، وتقدّم أبنية لا زالت معالمها غائمة لكي تفرض سيطرتها على الاجتماع السياسي؟
...الخ؟
ونأمل، كما أملنا قبل قليل في أن لا يأت شخص بدراسةٍ من هنا أو هناك لكي يقول لنا: هَاكُم هذا ما طلبتم. نأمل مرة أخرى، أن لا يتحوّل سؤال أينها سابق الذكر إلى سؤال ينتصر لذاكرتنا الجمعية على حساب فاهمتنا النقدية. فسؤال (أينها؟) بصيغته الذاكراتية يمكن لأي تلميذ أن يجيب عليه بكفاءة عالية، فما عليه إلا أن يحفظ أسماء بعض الدراسات ويُردّدها عن ظهر قلب. لكن صيغته الناقدة تتطلب حفراً معرفياً عميقاً في الأذهان كمرحلةٍ أولى، وإثارة السجال العمومي حول ما يدور في الأذهان، بحيث تصبح أفكار هذه الأحفورات أفكاراً عمومية يتشارك فيها أناس كثر يعنيهم أن يناقشوا ويساجلوا حولها. ففي هذا الإطار لا يكفي أن يكون لدينا –لغاية التأسيس لعقد اجتماعي جديد- عشر دراسات عن المنسف الأردني أو المسخن الفلسطيني أو التاريخ النبطي أو التاريخ الكنعاني أو تاريخ الحركات الإسلامية أو اليسارية أو البنى العشائرية أو موجات اللجوء المُتلاحقة...الخ، فقط. بل لا بُدّ لنا من تفعيل النقاش العقلاني الحُر في المجال العمومي حول هكذا مسائل مؤرقة وتوسيع دائرة النقاش قدر الإمكان، بحيث لا تعود حكراً على أحد. وبالضرورة سيكون لمراكز الأبحاث بتصنيفاتها المختلفة الدور الأعمق –وهذا غائب تماماً أو شبه غائب الآن عن الساحة الأردنية، فمراكز الأبحاث الموجودة هي مراكز شخصية ولا ترقى إلى مستوى المسؤولية المعرفية، وهذا عائد في الجزء الأكبر منه إلى خلل في تعريف المعرفة لدى القائمين عليها- في تفعيل هكذا نقاشات.
لكن –آخراً وليس أخيراً، لأن لنا جولات أُخَر في هذا المقام- أن يأتي سياسي أو صحفي ويزعجنا بمقولة "العقد الاجتماعي" لاعتقاده أننا سنسمه بوسم الفهم والمعرفة والفهلوية، فهذا لا ينفع الآن، فتزييف الوعي عملية مقيتة أخلاقياً، لأنه يشتغل على ثنائية: العارف العليم مقابل الجاهل العبيط. لكن الإيمان بهذه الفهلوية عملية ليست مقيتة أخلاقياً فقط، بل معرفياً أيضاً نظراً لضحالتها وسخفها فهي أشبه ما تكون بإنسان وجد جُملة في كتابٍ ما وقع صدفة بين يديه، وصار يُردّدها في المجالس لعلمه بأن الناس لم يقرأوها أو يطلعوا عليها، ولكثرة ترديدها نسبها إلى نفسه، فلا حسيب خارجي يُحاسبه على هفوته هذه، ولا رقيب داخلي يردعه عن استمراء هفوته هذه والاستمرار في تبنيها تبنياً فارغاً من أي معنى معرفي عميق.