في عالمنا العربي والاسلامي اشتهر إخواننا الشيعة باقامة احتفالات موسمية في مناسبات متعددة لممارسة اللطم والبكائيات كتعبير عن الندم لتخليهم عن نصرة الحسين رضي الله عنه كما ان اخواننا الصوفيين يمارسون بعض هذه الطقوس في حلقات اذكارهم التي غالبا ما تتسم بالصراخ والبكاء للوصول الى العالم الاعلى حيث الانسجام مع الذات والاقتراب من الحق ،وفي ادبياتنا الدينية لا نعدم من وجود « فقه» خاص بالبكاء، له أحواله وشروطه وفضائله.
علميا، أشارت دراسة أجراها علماء اميركيون وهولنديون الى ان اغلبية الناس يشعرون بتحسن المزاج بعد البكاء لكن الدراسة ربطت بين فوائد البكاء ومكانه وتوقيته، كما لاحظت دراسات أخرى ان البكاء كالتعرق بعد الرياضة،وانه ضروري للتخلص من حالة التوتر والحزن، مثلما ان الدموع تساعد في التخلص من بعض المواد الكيميائية التي تترسب في الجسم جراء الضغط النفسي.
يمكن بالطبع فهم البكاء في اطار التعبير عن مشاعر الحزن أو الضيق أو في مواجهة المآسي التي يزدحم بها واقعنا وهو (البكاء) هنا منسجم مع الفطرة الانسانية التي تنتابها لحظات من الفرح والحزن تحرك داخلها غرائز مثل الابتسامة او الدمعة الباكية. لكن ما لا يمكن فهمه هو ان يتحول البكاء الى «روح» عامة تسري في المجتمع والناس والامة، بحيث تتعامل مع مختلف التحديات التي تواجهها بمنطق الدموع تماما كما فعل شعراؤنا حين وقفوا للبكاء على الاطلال، وهكذا يمكن ان نتحول الى بكائيين عاجزين عن فعل اي شيء، لدرجة قد نتصور فيها احيانا ان بمقدور الدموع المسكوبة ان تحجب عنا رؤية الواقع و مواجهته ، او انها السلاح الوحيد الذي نملكه لتغيير احوالنا وحل مشاكلنا.
فرق كبير بين اليابانيين الذين دفعهم نمط الحياة المزدحمة بالعمل والانتاج والتوتر الى انشاء مؤسسات متخصصة لإقامة جلسات « بكاء» يتولاها عدد من الخبراء والمدربين عبر برامج لقراءة الروايات والقصص او عرض الافلام التي تدفع المشاركين في العادة للتنفيس عن مشاعرهم والدخول في موجات بكاء لساعة او اكثر البكاء ، وبين بعض العرب والمسلمين الذين دفعهم الشعور بالعجز وقلة الحيلة والظلم والاستعباد، او اضطرتهم مآسي الحروب والصراعات الى البكاء والندب وشق الجيوب، اولئك اليابانيون قاموا بواجبهم على الارض في بناء الحياة ونهضوا بمسؤوليتهم ثم جلسوا «للبكاء» لاستئناف هذا الواجب واتمامه، اما نحن فقد خنقنا العجز والقتل والخوف والتخلف، واستفزعتنا دعوات «النعي» والتيئييس التي انتشرت حولنا، ولم يسعفنا تفكيرنا في الخروج من المقبرة التي اقمنا بين كوابيسها ودفنّا فيها عقولنا، فاستسلمنا لموجات طويلة من البكاء، حتى أعمت الدموع عيوننا عن رؤية حاضرنا ومستقبلنا ايضا.
الدستور