يقول لنا اصدقاؤنا العلمانيون: لانريد قانون احوال شخصية او محاكم شرعية، ولا نقبل «بنوكاً» تتعامل بمنطق الاقتصاد غير الربوي، ولا نريد مناهج دراسية ذات مضامين دينية، ولا نوافق على دستور يحدد «الاسلام» ديناً للدولة، ولا يسعدنا رؤية المحجبات والمنقبات في الشوارع والاسواق، ولا يوجد اي مبرر لحضور المؤسسات الدينية في بلادنا، ولا لحراك الاسلام السياسي في البرلمان او السلطة، ويقولون لنا بصراحة ايضا: ان الدين هو الذي افرز التخلف والتكفير والارهاب، وهو الذي حرمنا من نعمة التقدم وهو الذي وضعنا تحت مطرقة الاستبداد.
لا اريد ان اسأل هؤلاء الذين ضاقوا ذرعا بالدين، بكل ما يمثله من قيم الحرية النظيفة والاحتشام و العدالة والاستقامة، وتورطوا في تحريض اجيالنا ضد الحشمة والعفة والاخلاق، هؤلاء الذين يبشروننا بالعلمانية كمنقذ وطريق للنهضة : من اي رحم خرجت هذه الحضارة العربية الاسلامية التي تحاولون شطبها من محاضر التاريخ والواقع ؟ الم تخرج من رحم الدين الذي تحاولون اليوم الانقضاض عليه وحذفه، اليس الاسلام هو الذي حرك العقل العربي – بعد ان هذّبه من الخرافات والاوهام والشرك – لانتاج هذه الحضارة التي كانت انسانية بامتياز، اليس الاسلام هو «الاطار» الحضاري الذي جمع «الناس» المؤمنين من شتى الجنسيات والالوان والمعتقدات والاتجاهات للتدافع والتنافس والابداع والتلاقي على ارضية القيم والمبادىء والمصالح، اليس الاسلام -الدين والقيمة – هو الباعث الاصيل الذي ولّد عند المؤمنين به الاحساس بالانتماء «للفكرة» والدوران حولها والتضحية من اجلها.
لا اريد ان اسألهم ايضا عن تجربة «التحضر» التي افرزها الدين حين سمح له ان يتحرك في حياتنا وفق بوصلته الصحيحة، ولا عن تجربة الدين في التحرر التي مكنت غيرنا من شعوب الدنيا من الانتعاش وكسر القيود والاغلال، لا اريد ان اسألهم عن العلمانية التي فجرت ثورة المضطهدين في تونس وغيرها من بلداننا العربية التي ما تزال تحت رحمة البراميل المتفجرة، اريد ان اصارحهم –فقط- بأن العلمانية التي يبشرون بها كانت في بلداننا العربية هي آفة الفساد والاستبداد، تماماً كما هو التدين المغشوش الابن الشرعي للقهر والظلم والاستعباد، ونحن لا نريد لا هذا ولا ذاك، لأن ديننا اولاً يرفض العبودية مهما كان غطاؤها، ولأننا ثانياً عانينا من كوارثها ولا نزال، نحن نريد لمجتمعاتنا ان تتصالح مع دينها الصحيح بما يمثله من قيم انسانية ومقاصد واقعية، نريد لها أن تتحرر من «الرق» القديم والجديد وان تستعيد عافيتا الحضارية، وهذا لن يكون من خلال «استنبات» غراس الاخرين في تربتها وانما من خلال «الدين» الذي ولد هنا، ونهض بها وما يزال قادراً على اعادتها لمركزها الانساني الذي افتقدته، الدين الذي يعتقد البعض ان تعطيله عن الحركة هو فرصتهم الاخيرة للانقضاض على الامة واخراجها من التاريخ..وحرمانها من المستقبل ايضا.
ارجو ان لا يقول لي هؤلاء الذين يتسربون الينا من نوافذ هجاء داعش او من كهوف الانتصار «للفلسفة» او من سرادق الدفاع عن حريات الناس في التعري والانحلال : ان ديننا هو الذي انتج التطرف والارهاب، وانه المسؤول عن تخلف امتنا وتراجعها وانكساراتها، او ان تديننا اليوم هو ما نقصده عند الحديث عن صلاح الامة بعودتها الى دينها، فالدين ليس هو المسؤول عما وصلنا اليه من خراب كما ان بعض صور التدين التي تتكئون عليها للاساءة للدين ليست الا انعكاسا لفهم الناس وتطبيقهم للدين ، .. الدين الصحيح لا التدين المغشوش هو الذي نعنيه وندعو اليه.
الدستور