ولي العهد كأنموذج يُنهي جدلية ويُثير أخرى
د.هشام المكانين العجارمة
08-07-2018 02:00 AM
* قراءة على هامش خِطابه في جامعة الحسين
تابعت باهتمام خِطاب ولي عهدنا خلال زيارته لجامعة أغلى الرجال، وسمعت جيداً لما نطق كلمة كلمة، وتمعنت عميقاً بدلالات عبارته وجُمله والتي تُشكل خارطة طريق لجيلنا ولجيل المستقبل الذي يُريده جلالة الملك ونُريده نحنُ كأمة تتوق للتغيير للأفضل على هذه الأرض.
إن ما صرّح به ولي العهد من عبارات مدويّة ما هي إلا حصيلة تربية وتنشئة لشاب بات يحكم الفكر قبل أن يُهيّأ لمساندة حاكم الدولة - أطال الله في عُمر جلالته-. ولعل مما يزيد من واقع ذلك هو تتبع أبناء الأسرة الأردنية الواحدة لحياة الحسين الثاني ومعاصرتها بكامل تفاصليها مقابل الفترة القصيرة التي قُيّض للملك فيها - قبل استلامه زمام الأمور وتوليه سلطاته الدستورية- أن يكون ولياً للعهد وهُنا لا ننكر للملك قوة تنشأته وتفاصيل حياته الزاخرة بالعطاء والبناء فهو نجل الحسين حُسين القلوب والأمة.
صورة مليكنا - حفظه الله ورعاه - كملك لا تختلف عنه كوالد فتوجيهاته لإبنه الشاب هي مثال عميق لكل من يريد أن يرى إبنه بحال أفضل مهما اختلفت ظروف العيش أو أنماط الفكر.
سياسة الملك في التربية - بحسب تعبير سُموّه- لم تكن سياسة قائمة على الإقصاء بل كانت ترتكز على الانفتاح لا الانغلاق وإفساح المجال للاختيار والتجربة، وهذا ما عبّر عنه سُموّه بقوله : " لم يُثقلني والدي يوماً بعبارة (ما بصير) ولم يُكبلني بكلمة (لازم) ، لم يحدّ من آفاقي، ولم يُلزمني، أعطاني مساحة للتجربة والاختيار، ترددي وعدم يقيني ُيلاقيه بكلمة (حاول أو جرّب)". ولعل هذا ما نحتاجه اليوم في تربيتنا لأبنائنا فبحسب رؤى جلالة الملك فإن قيم الدروس المكتسبة من الفشل هي أثمن من النجاح، وأن الخيار مسؤولية.
ولي العهد اليوم أصبح انموذجاً ملهماً للشّباب ولولاه العهد كذلك في بناء الفكر والقدرات، وذلك ليس بغريب على شاب نشأ في بيت حكمة وقيادة، شاب والده يُشكل أُسطورة في الحكم، حيث أجبر العالم على احترامه وتقديره ليس لأنه المتفرد من بين القادة الذي أخذ على عاتقه الدفاع عن الأمة وقضاياها ومقدساتها وحسب وإنما لرؤاه وحنكته، ملك عَرِف العالمُ بأسره الأردنّ من خلاله رغم صِغر مساحته ومحدودية موارده حتى بات اسم الأردن يقترن بجلالته.
كما أن المتابع لتحركات ولي العهد في الأشهر القليلة الماضية واقترابه من نبض الشّارع وتكثيف زياراته لكافة شرائح المجتمع وقطاعات الدولة يلمس أن ولي العهد لم يأخذ والده وجده - نماذج الملوك الملوك - مثالاً وحسب وإنما يلمس عزمه - حفظه الله - على أن يرسم ملامح القادم بطريقته التي تُحاكي إدراكه للواقع وتغيرات الحاضر المتسارعة وحجم التحديات القائمة وعلى رأسها التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحاجة لمواكبة التسارع التقني.
إن اختيار ولي العهد لمَعان لتكون مكاناً لحديثه - والكل يعرف دور معان ورجالاتها في تأسيس الدولة- واختيار جامعة الحسين بن طلال حاضنة العلم والفكر في صحراء الجنوب - جامعة كان لها ولا يزال شرف حمل اسم الملك الباني وهي أول جامعة في عهد الملك المعزز- واختيار الشّباب كفئة مستهدفة للخِطاب له دلالته العميقة التي جاءت لتأكيد أهمية تاريخ فرض نفسه وحاضر أمة يستدعي المواكبة، إذا لا يمكن إنكار دور الجامعات في إحداث التنمية البشرية والتغيير للأفضل، لا سيما أنها تزخر بجيل الشّباب الذين هم عماد الأمة ومستقبلها.
إن خِطاب ولي العهد - ومن تابعه يدرك ما أقول - هو خِطاب مُفعم بالثقة والايمان بالقدرات والمستقبل، كما أنه امتداد لفكر هاشمي عروبي، خِطاب يُؤكد مساعي القيادة الحثيثة لاستنهاض الهمم وإبعاد السلبية وإحداث التغيير الايجابي، خِطاب يُؤمن بأن لا مستحيل مع التجربة، وكلُّ ما نخافه ممكن أن نجابهه بالعزم والاصرار والارادة الحقيقية لا الارادة الزائفة المزعومة، لا سيما أننا المسؤولين عن شكل المستقبل القادم الذي يجب أن يُحاكي تغيرات العالم ومستجداته، خاصة بأن المستقبل ماضٍ في المسير ولا ينتظر أحد، فنحن كما عبّر سموه : " نعيش في عالم غير ذلك العالم الذي عاشت فيه الأجيال السابقة وتفاعلت معه".
إن إطلاع ولي العهد وإدراكه لواقع المحيط وتحديات الداخل - وهذا ما عبّر عنه بقوله: " تحديات جيلنا كبيرة وكثيرة فمن جهة أقليم مؤجج بحروب دامية لم نرث سوى تداعياتها على بلدنا، ومن جهة أخرى مناخ اقتصادي مُثقل بالأزمات"- يفرض عليه كولي للعهد أن يكون على قدر المسؤولية ليس بالقول وحسب وإنما بالفعل كذلك، وهذا ما نلمسه على أرض الواقع كل يوم، وما خِطاب سُموّه - حفظه الله - في مجلس الأمن وهو الأصغر سناً وحديثه فيه عن تحديات المنطقة وواقع الشّباب العربي تحديداً وتحدياتهم، وخِطابه كذلك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي المنتديات الاقتصادية والمنابر الفكرية وعلى رأسها المنتدى العالمي للشباب والسلام والأمن، ومرافقته لجلالة الملك في زياراته واللقاء بالزعماء والقادة إلّا دليل صارخ على ما أقول.
محلياً يثبت ولي العهد ذلك أيضاً، إذ لا ننسى مشاركته لأصحاب الحقوق والمطالب المشروعة على الدوار الرابع وقفتهم لا بل مساندته لهم وتعبيره عن اعتزازه لوقفاتهم، وأنه معهم كما جلالة الملك وأن هذا ما يأمله من أبناء وطنه أن يكونوا عوناً ونصيراً للوطن ولجلالته، ومن لم يرى مشاركة سُموّه للشّباب في مبادراتهم وأعمالهم ! ومن لم يعرف عن تلك المبادرات التي أطلقها سموه بنفسه كمبادرة (سمع بلا حدود) ومبادرة (حقّق) ومبادرة (نوى) ومبادرة (مسار) ومبادرة (مصنع الأفكار) و (تدريب ناسا) وغيرها الكثير.
إن خِطاب ولي العهد يضعنا أمام مسؤولية دورنا في بناء الدولة وفي إيصال مركبها لبر الأمان إجباراً لا اختياراً بطاقات أبناء الأمة وهمتهم، وهذا ما يتضح بقول سُموّه للشّباب: " لقد حان دوركم لتبنوا ولتزيدوا الاردن عماراً ونماء ولكن بطريقتكم وأدوات عصركم" .
كما أن في مضامين خِطاب سُموّه إيمان عميق بالشّباب وبقدراتهم وأنهم على قدر العزم والأمل للنهوض بالأردن، وهذا مطلب الشّباب وطموحهم الذي لا بديل عنه ولن يُرتضى بغيره، وهذا ما عبّر عنه سُموّه بقوله :" وأنا أعرف شباب بلدي جيداً فنحن لن نرضى أن يقف الأردن مكانه "، كما أن دعوة ولي العهد للشّباب لضرورة أن يُمكّنوا أنفسهم بالعلم معرفةً وتقنية وأن يتسلحوا بالإرادة والإيمان لم يأتي جزافا، فبحسب وصف سُموّه: " فإن لم نتغير ونتطور سنتخلف عن الركب العالمي". وهذا يتطلب مسؤولية مشتركة، مسؤولية لا تقع على عاتق الشّباب وحدهم بل تقع على عاتق الشركاء كما أن لقطاعات الدولة والتشاركية فيما بينها دور كبير للنهوض بالشّباب، وهذا ما عبّر عنه سُموّه وأكّد عليه بقوله : " إن تحقيق رؤية المستقبل ليست مسؤولية الشّباب وحدهم بل هي مسؤولية مشتركة، مسؤولية القطاع الخاص والعام والمؤسسات الشّبابية والمجتمع بأكمله"، كما وضّح سُموّه: " نحن لا نريد من المجتمع والمسؤولين أن يخلقوا الفرص ولكن ما نطلبه أن يوفروا البيئة التي تسمح للفرص بأن تُخلْق" .
ختاماً
ولي عهدنا رغم صِغر سنّه يُثبت كل يوم أنه عند حسن ظنّ القائد ورؤيته، كما يُثبت أنه على قدر المسؤولية التي ارتضاها له الملك وقَبِل بها الشعب محبةً ورضا وقناعة لأنه ابن المعزز عبدالله -أدام الله عزّه- وحفيد الحسين الباني -رحمه الله -. وليس بأفضل دلائل على اقتدار سُموّه خيرٌ من أفعاله وخطاباته التي تحمل مستوى من الرّفعة شكلاً ومضمونا لم يرتقِ إليها كثير ممن هُيئت لهم الفرصة للقيادة في كثير من دول العالم وخاصة العربي منه، وهذا المستوى يُزيل رواسب جدلية التشكيك التي كانت لدى البعض حول قدرة ولي العهد على القيادة، ويضعنا أمام جدلية جديدة حول قُوّة فكر سُموّه وتنوع طرحه وعُمق إيمانه وصلابة موقفه وعزيمته مقابل حداثة عُمرِه وتجاربه، وفي ذلك يمكن لي القول: ( لا خوف على أردن حافظه الله ونحن شعبه ومليكه عبدالله الثاني وولي عهده الحسين ).
وفي ضوء ما سبق وأسلفت، فإنني أرى كذلك أن جامعة أغلى الرجال - والتي كانت باكورة عملي الأكاديمي حيث تشرفت بالعمل بها سنوات خلت - بأسرتها الكبيرة محظوظة بزيارة ولي العهد، حيث منحت زيارتِه الحاضرين فُرصة الاطلاع عن قُرب على فِكر شاب هو استثمار الاردن بأسرته الواحدة الكبيرة وبعائلته الهاشميّة، كما أن في زيارته - حفظه الله - دروس كثيرة للشّباب لمن أراد أن يساهم بنفسه في إحداث التغيير المنشود، وهذا ما عبّر عنه سموه في أكثر من موضع من ذلك قوله: " أن جيلنا هو المكلّف والمهيأُ للقفز بالأردن إلى المستقبل، حيث تُصنع الفرص بالطموح والابتكار والريادة ... الفرص الآن للروّاد الذين يَجدّون، فالمستقبل لا مجال فيه لطوابير الانتظار".
نهاية حفظ الله الأردن أرضاً وقيادةً وشعبا