الأردن الذي استقبل نحو المليون لاجئ سوري لن ينوء بحمل بضعة آلاف آخرين من أشقائه المهجرين في مناطق جنوب سوريا أو ما كان يفترض أنها إحدى مناطق خفض التصعيد، والقضية هنا ليست اقتصادية كما شُبه للبعض، ولاهي مجرد رد فعل على تخاذل وتقاعس المجتمع الدولي والعرب الضالعين أصلا في صناعة الوحل السوري، فكل هذه المعطيات وضعها الأردن العربي الهاشمي خلف ظهره منذ قالها له الأشقاء والأصدقاء بكل وضوح: (إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون).
لقد مضى الأردن في تحمل فاتورة اللجوء السوري من قوت عياله وحليب أطفاله بما تعدى في لحظة ما الأثر الاقتصادي وأوشك أن يؤثر على استقراره الاجتماعي والسياسي، ولكن المشكلة اليوم أصبحت أخطر من ذلك بكثير، فالأمر الآن يتعلق بتهديد أمني مبطن، وابتزاز رخيص قد يكون موجها لنا من قبل قوى إقليمية وقوى عظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، بهدف إرغام الأردن على القبول بما تسمى صفقة القرن، إذ بات من المعروف أن الأوراق المختلطة في الساحة السورية تستخدم لتصفية الكثير من الحسابات الإقليمية والدولية، وليس سرا أن كافة الفصائل المتناحرة بالوكالة على الأرض السورية تتحرك حاليا إما بالريموت (الصهيو-أمريكي)، أو الريموت (الصفيو-روسي)، ويبدو أن ريموت ترامب ونتنياهو هو الذي ينشط الآن على شريطنا الحدودي الشمالي والدليل على ذلك أن هذه المناطق مصنفة - وفق الاتفاق الأردني الأمريكي الروسي وبمباركة إسرائيلية - على أنها مناطق خفض تصعيد، فلماذا تصمت اليوم أمريكا على هذا الانتهاك الذي يتهدد حليفا مهما كالأردن، وينذر باختراق فلول الدواعش وفرق الموت الشيعية لأراضيه إن هو (أي الأردن) رفض الانصياع للحلول الأحادية التصفوية للقضية الفلسطينية ضمن سياق ما تسمى صفقة القرن؟! ولماذا لم نعد نسمع صراخ نتنياهو الذي كان حتى وقت قريب يرفض تعاظم النفوذ الإيراني في سوريا ويحذر من اقتراب الشيعة من حدود فلسطين المحتلة؟!.
لقد سبق وأن استخدمت واشنطن هذه السياسة عبر الورقة المليشيوية الكردية على الجانب التركي لممارسة الابتزاز السياسي والأمني لإسطنبول، واستخدمت "ريموتها" لتحريك مفاعيل الفوضى والتقسيم والتأزيم والصفقات المشبوهة على نحو دفع الإدارة التركية للمخاطرة بالتوغل في العمق السوري على أمل إفشال المؤامرة وإحباط المخطط، مع أن خطر هذا التوغل على الأتراك مازال قائما وبقوة.
قد يقول قائل إن القوى العظمى لا تستطيع المخاطرة بأطول شريط بري لربيبتها إسرائيل، وهنا أقول إن فرق المرتزقة وميليشيات الذبح المدفوع مسبقا تعرف حدودها جيدا وتتوقف عندها وتتحرك وفق ما يأتيها من توجيهات، ولنا في جبهة الجولان مثالا حيا، فقد استمر هدوء هذه الجبهة في عهد الخوارج وحماة الدولار، تماما كما كان مستمرا منذ أكثر من أربعين عاما على يد حماة الديار.
ولا تقل خطورة عن العامل السابق حرب التطهير العرقي التي تشن على نحو مكشوف في سوريا، فمن الواضح تماما أن بشار الأسد يعمل على استبدال الشعب السوري بآخر من شيعته حتى وإن كان ناطقا بغير العربية كالفارسية مثلا، وتحدثت تقارير صحفية مؤخرا عن أحياء سورية بأكملها ما عادت تنطق بالعربية. أظن أن السوريين اليوم تقع على عاتقهم مسؤولية تاريخية للحفاظ على أرض آبائهم وأجدادهم قبل أن يتناهشها الجشع الإقليمي على يد زمرة مستعدة لتسليم الوطن العربي من المحيط إلى الخليج لقاء البقاء على كرسي الحكم.
وإن كل ما تقدم لا يعفي الأردن من دوره الإنساني في نصرة الجار ذي القربى والجار الجنب، وقد هب الأردن بالفعل شعبا وحكومة لتسيير قوافل الإغاثة للمنكوبين داخل الحدود السورية، وأظن أنه لن يتقاعس عن إيواء كل من يحتاجون إلى العبور لا سيما النساء والأطفال، مع الحفاظ في الآن ذاته على أقصى درجات الحيطة والحذر والتأهب الأمني.