مسيرة التنمية والإصلاح ماضية رغم التحديات
د. رلى الفرا الحروب
09-05-2009 11:33 PM
لا ينكر أحد أن العام 2009 حافل بالتحديات الاقتصادية، ولم يعد سرا أن الاقتصاد بات الدينامو المحرك للسياسة والمجتمع وأن الأزمات الاقتصادية تترجم إلى أزمات سياسية واجتماعية، وهو ما دفع البنك الدولي إلى التحذير من تداعيات الأزمة المالية على العالم ليس من باب ازدياد الفقر والجوع والبطالة والعجز عن مواجهة الأمراض فحسب، بل من باب الثورات والقلاقل المحتملة التي قد تتسبب فيها مثل تلك الأوضاع .
علاوة على ذلك التحدي الاقتصادي العالمي والذي خلف ذيوله في الساحة المحلية، فإن صعود حكومة متعنتة في إسرائيل يفرض تحديات إضافية على هذه المنطقة من العالم، وبالتحديد على الأردن البلد الصغير المحاذي لإسرائيل والذي طالما تحمل تبعات الغطرسة الإسرائيلية ودفع ثمنها مضطرا أو مختارا، ومن ثم فإن الأردن كحاله منذ عقود لن يحظى هذا العام بأي فرصة لالتقاط الأنفاس.
رغم ذلك كله، ورغم إدراك القيادة الهاشمية لمجمل التحديات الإقليمية والعالمية وحتى الداخلية، ورغم عمل الحكومة الأردنية الدؤوب على استباق تلك التحديات وطرح الحلول قبل تبلور الأزمات، فإن مسيرة التنمية والإصلاح لم تتعثر ولم يتذرع صانع القرار بأي ظرف لتأجيل استحقاقاتها، بل إن طموح الأردن يتعاظم كل يوم ولسان حال قيادته يقول: لن تحرف الرياح شراعنا أيا يكن اتجاهها، قد نخفض السرعة أحيانا ولكننا ماضون باتجاه الهدف ولن نغير المسار.
يوم الخميس الماضي جمعنا وعدد من الزملاء الإعلاميين لقاء برئيس الحكومة المهندس نادر الذهبي، وقد سررنا بما استمعنا إليه، فقد تمكن الذهبي بصوته الهادئ ولغته الواثقة وقراءته المتفائلة للأرقام والمؤشرات من إذابة بعض غلالات الشك التي كانت تراود أذهاننا ونحن نتساءل عن مصيرنا هذا العام في ظل تنامي عجز الموازنة وتعاظم التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
أشار الذهبي إلى عدد من المشروعات الناجحة التي ستطرق أبوابنا قريبا وسيقطف المواطن الأردني ثمراتها في المدى المتوسط والبعيد، على غرار مشروع استخراج الغاز الطبيعي من "الريشة " الذي سيتم توقيعه في "دافوس" بين الحكومة الأردنية وشركة بريتيش بتروليوم، واستخراج النفط من الصخر الزيتي بعد حقنه ليتحول إلى نفط والذي تم التعاقد فيه مع شركة شل وسيدر على الأردن خلال 15 عاما ما لا يقل عن مئة بليون دولار، ومشروع الديسي الذي سيتم توقيعه في دافوس أيضا والذي سيسهم في حل مشكلة المياه بشكل جذري والذي رغم تكاليفه الباهظة التي وصلت 945 مليون دولار سيحافظ على سعر مبيع للمتر المكعب يقارب السعر الحالي (74 قرشا مقابل 70 قرشا حاليا للمتر المكعب).
أشار الرئيس أيضا إلى تحركات جلالة الملك في كل من طوكيو وواشنطن والتي ستترجم قريبا إلى دعم اقتصادي استثنائي لا يقل أهمية عن التنسيق السياسي المشترك الذي أثمرت عنه الجولتان، ورغم تحفظه على ذكر الأرقام النهائية، إلا أن مصادر دبلوماسية كانت قد ذكرت في لقاء غير رسمي أن مجموع ما قد نحصل عليه من مساعدات من اليابان ربما يصل إلى 74 مليون دولار تكون حصة المشاريع فيها 56 مليونا تذهب بشكل خاص إلى مشاريع مياه الجنوب (الطفيلة-معان) ومياه الزرقاء وأمن المطار ، وتترجم البقية إلى مساعدات نقدية غير مرتبطة بمشاريع، هذا بالإضافة إلى قرض ميسر بفوائد منخفضة بقيمة 250 مليون دولار قد يحصل عليه الأردن لسداد ديون سابقة.
هذه المبالغ التي لما يقرها البرلمان الياباني بعد تعد قياسية مقارنة بما تقدمه اليابان عادة من مساعدات للدول، وحتى في حال انخفاضها إلى ما يقارب 30-50 مليون حسب التقديرات المتحفظة داخل الحكومة فإنها تبقى مؤشرا هاما لما تشهده العلاقات الأردنية- اليابانية من دفء ينعكس إيجابا على النمو الاقتصادي والاجتماعي في الأردن ويعمق الاستقرار السياسي فيه ويؤدي إلى تعاظم حيز الثقة والتعاون والمحبة بين الشعبين.
الزيارة الملكية إلى واشنطن لم تكن ناجحة فحسب، بل كانت بالغة الأهمية على الصعيد الداخلي كما على الصعيد الإقليمي، وفي الوقت الذي كان فيه جلالة الملك ينقل وجهة النظر العربية إلى الإدارة الجديدة ويحاول تنبيهها إلى مغبة الانخداع بطروحات نتنياهو التي تحاول تسويق نظرية إيران أولا وثانيا وثالثا قبل أي سلام مع الفلسطينيين او اللبنانيين أو السوريين، كان الطاقم الحكومي المرافق لجلالة الملك وبتوجيهات منه يعمل ما في وسعه لزيادة المساعدات المالية التي يحصل عليها الأردن سنويا من الحكومة الأمريكية بالتنسيق مع لجنة الصداقة الأردنية- الأمريكية في الكونجرس ولجان أخرى، كما كانت الجهود متواصلة مع البنك الدولي في الوقت ذاته لتمويل مشاريع مثل المياه وصوامع الحبوب وبرامج تحدي الألفية، وهي مشاريع تتراوح قيمتها بين 240-400 مليون دولار.
وتشير بعض المصادر إلى أن الأردن ربما ينجح بالفعل في الحصول على 200 مليون دولار إضافية من الحكومة الأمريكية يذهب نصفها إلى مساعدات اقتصادية، ونصفها الثاني إلى مساعدات عسكرية، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تقدم أي مساعدات إضافية لأي دولة هذا العام جراء الأزمة المالية الحادة التي تمر بها، ولكن نظرا للدور الهام الذي تلعبه الأردن في أمن واستقرار المنطقة ونظرا للعلاقات الطيبة التي تتمتع بها القيادة الهاشمية مع الإدارة الأمريكية والسمعة الحسنة التي يحظى بها الأردن في أروقة الكونجرس فإن استثناء قد يحدث ويؤدي إلى حصول الأردن على نصيب أوفر من المساعدات هذا العام.
العلاقات الأردنية – الليبية تشهد بدورها تطورا إيجابية، ففي الزيارة الأخيرة للرئيس الذهبي إلى طرابلس لمس وجود إرادة سياسية ليبية للتعاون مع الأردن، فقد سمحت الحكومة الليبية مؤخرا بدخول الشاحنات الأردنية محملة ببضائع أردنية عبر الحدود البرية من مصر إلى ليبيا، في حين أن التعليمات السابقة كانت تقتصر على جيران ليبيا الحدوديين تونس ومصر فقط.
الأدوية الأردنية حظيت بأفضلية ممتازة في عطاءات الحكومة الليبية بعدما كانت تعليمات تلك العطاءات تقتصر على الأدوية الأمريكية والأوروبية، وهو ما يعكس تزايد الثقة بالمنتج الأردني من قبل الحكومة الليبية، ويؤسس لعلاقات مثمرة بين البلدين، بل إن الحكومة الليبية قد عبرت بالفعل عن رغبتها في إقامة مصنع مشترك للأدوية بين الأردن وليبيا بناء على التجربة الناجحة التي خاضتها شركة الحكمة للدواء والتي أسست مصنعا مشتركا لها في البرتغال لدخول السوق الأوروبية المشتركة.
هناك توجه شبه رسمي في ليبيا أيضا يحث على توجه المرضى الليبيين للعلاج في المستشفيات الأردنية، كما أن الزعيم الليبي معمر القذافي كان قد عبر للرئيس الذهبي في زيارته الأخيرة عن ترحيبه باستقبال العمالة الأردنية المؤهلة والكفؤة في مختلف المؤسسات الليبية وعلى رأسها المستشفيات نظرا للسمعة الحسنة التي يتمتع بها الأردنيون خاصة الأطباء والطواقم التمريضية. وفي ظل الطفرة التنموية الكبيرة التي تشهدها ليبيا وتوفر الأموال ونقص الكفاءات، فإن العلاقات المميزة مع ليبيا تشكل ملاذا آمنا واستراتيجية داعمة، إن لم نقل بديلة، لمواجهة أي أزمات قادمة قد تترتب على عودة بعض الخبرات والكفاءات الأردنية من دول الخليج.
العراق بوابة الأردن الخليجية وعمقه العروبي يحظى بدوره بموقع مميز في الأجندة الملكية التي تعمل الحكومة برئاسة الذهبي على تنفيذها، فجلالته لا يبذل جهدا سياسيا لإعادة العراق إلى الحضن العربي فحسب، بل ويحاول استعادة تلك العلاقات المميزة التي كانت تربط بين العراق ومحيطه العربي اقتصاديا، بالأخص الأردن، والحكومة متفائلة بأن يقفز حجم التبادل التجاري بين البلدين هذا العام إلى مليار دولار بزيادة 200 مليون دولار عن العام الماضي، كما أن الأردن قد يتحول إلى منفذ هام للنفط العراقي عبر خط بانياس الذي يفكر العراقيون في مد وصلة منه إلى الأردن واستعمال العقبة كمنفذ بحري لتخزين النفط وتصديره. وإن كان الجيش الأمريكي قد منح كلا من الكويت وتركيا الأولوية في المشاريع، فإن هناك حوارا مع الحكومة العراقية على إعطاء الأفضلية للأردن في كثير من المشاريع. ويمكن تلمس تلك التغيرات الإيجابية عبر ما قام به الأردن مؤخرا من تخفيف إجراءات الفيزا، وما يتواتر من معلومات حول قرب الإفراج عن عدد من الأسرى والمساجين الأردنيين في العراق.
علاوة على ما تقدم، فإن عددا من المؤشرات الاقتصادية تبقى إيجابية، وإن كانت أقل من التقديرات التي وضعت لها سابقا، فالصادرات ارتفعت بنسبة 7% في أول شهرين من هذا العام، كما انخفضت قيمة المستوردات بنسبة 2%، والتضخم انخفض بنسبة 2.8 % والدخل السياحي نما بنسبة 7.5%، والمساحات المرخصة للبناء ارتفعت بنسبة 13.6% ، وهو ما سيترجم قريبا إلى حركة نشطة في السوق، كما أن أداء البورصة ارتفع بنسبة 12% في الربع الأول عنه في الربع الأخير من العام الماضي (23% مقارنة بـ 11%)، كما ارتفعت قيمة الأسهم في السوق المالي بما لا يقل عن 25 مليون دينار.
الإيرادات المحلية في الثلث الأول بلغت 1.5 مليار دينار مقارنة بـ 1.48 مليار للثلث الأول من العام الماضي، ولكنها مع ذلك تبقى أقل بمبلغ 289 مليونا عما خططت الحكومة لتوريده للخزينة، وتحويلات الأردنيين في الخارج انخفضت بنسبة 1% ، وليس بالحجم الذي توقعه البعض وحذر من تبعاته، بل إن السياسة الاقتصادية المتشددة في الرقابة والتي اتبعها البنك المركزي الأردني لاقت إشادة من قبل 15 دولة في اجتماعات صندوق النقد الدولي في واشنطن حيث ساهمت في حماية السوق والاقتصاد بوجه عام من التأثيرات السلبية التي عانت منها دول كبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا جراء غياب ذلك الدور الحازم للرقابة.
وإن استثنينا معضلة عجز الموازنة التي تعمل الحكومة على مواجهتها برفع منسوب المساعدات الخارجية والحصول على قروض ميسرة لسداد الديون، فإن سياستها لتحفيز الاقتصاد تقوم على ثلاثة أركان هي: مواصلة الإنفاق على المشاريع الرأسمالية التي تحرك الاقتصاد وتشغل أيدي عاملة وتقلل من نسب البطالة، إلى جوار خفض الضرائب لحفز الإنفاق والإقراض والاستثمار، والتوسع في الإنفاق على شبكة الأمان الاجتماعي لضمان استقرار الطبقات الهشة والمعرضة للخطر في المجتمع والحيلولة دون تدهور الطبقة الوسطى وتراجعها إلى خانة الفقر، وبغض النظر عن تحفظنا على سياسة التوسع في الإنفاق الرأسمالي وخفض الضرائب على بعض الشرائح فاحشة الثراء كالبنوك وشركات الاتصالات في مثل هذا الظرف الذي تمر به الخزينة، فإن اجتهاد الحكومة يبقى موضع التقدير، والعبرة بالنتائج في نهاية المطاف.
التوجه إلى إلغاء ضريبة الثقافة التي سنت رغم أنف وسائل الإعلام ومررها مجلس الأمة في الدورة الماضية يأتي ضمن سياسة التخفيف الضريبي، ولكنه يكتسب أهمية مضاعفة كونه يفتح صفحة جديدة مع وسائل الإعلام التي شعرت بأنها مستهدفة وأن الحكومة تعمل على إفلاسها وإغلاقها، خاصة حين نعلم أن ثلاث صحف فقط تربح من مجموع الصحف اليومية جميعها، أما الصحف الأسبوعية فحدث ولا حرج، وكذلك الحال مع محطات التلفزة والإذاعة الخاصة، ومن ثم فإن إلغاء الضريبة يكتسب بعدا إضافيا معززا للحريات وداعما للتعددية الإعلامية.
في مجال الحريات وحقوق الإنسان أيضا، تحاول الحكومة تسجيل نقطة تضاف إلى رصيدها، ألا وهي إلحاق السجون بوزارة العدل بدلا من وزارة الداخلية، وهو مطلب قديم لمنظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان، وإن نجحت الحكومة في تنفيذ هذا الالتزام وإقناع البرلمان وكافة الجهات المعنية به، فإننا دون أدنى شك نخطو خطوات واسعة باتجاه احترام الكرامة الإنسانية داخل السجون وإنهاء الكثير من التجاوزات السابقة على صعيد التعذيب وإساءة المعاملة والاستغلال.
بوجه عام، ورغم الإشاعات المتزايدة بقرب رحيل الحكومة، فإنها تعمل بأقصى طاقتها لتنفيذ الأجندة التنموية والإصلاحية التي يطالبها بها الملك ضمن حدود الصلاحيات الممنوحة لها والوقت والإمكانات المتاحة، ورئيسها الذهبي رغم اطلاعه على كل ما يكتب وينشر في وسائل الإعلام، ورغم معرفته بالصراعات الخفية المحتدمة التي تعمل على التعجيل برحيل حكومته، أسوة بحكومات سبقتها، إلا أنه لا يسمح لها بتعطيله لأنه يعي القاعدة الذهبية " مع المسؤولية تأتي المساءلة"، ويدرك أن التنبؤ بقرب رحيل الحكومات بات نهجا شعبيا، خاصة وأن عمرها التقليدي وفقا للنمط السياسي المتبع قصير بالفعل.
الانباط.