اكثر ما يميز ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب ، تهديدها للمنظومة الدولية ، والدفع بها نحو الفوضى وربما الانفلات على وقع تصرفات وقرارات غير محسوبة ، تستهدف البنية التحتية للنظام الدولي ، بما هي علاقات واتفاقيات ومنظمات دولية ، تجسد القواعد والادوات التي تحكم حركتة وتضبطها ، باعتباره مرجعية معتمدة في ادارة شؤون العالم ، غالبا ما يتم فرضها بالقوة او بمنطق القوة ، ترجمة لعناصر الهيمنة والنفوذ التي تمتلكها الاطراف التي تتولى ادارة هذا النظام وتقوده وتتربع على قمته .
وبما ان مستقبل دول العالم ومصالحها يتوقف على كيفية ادارة هذه المرجعية الدولية ، فان هذا يتطلب وجود توافقات وتفاهمات ، ولو بالحدود الدنيا ، على ضرورة مراعاة هذه المصالح ، والا اصبحت ادارة النظام الدولي محل شك او نقاش ، قد تدفع بالاطراف الاخرى الى اعادة التفكير بضرورة مراجعة حساباتها وترتيباتها ، بما يشبه تنظيم امورها ومواقفها ، استعدادا للدخول في سيناريوهات وحوارات جديدة ، قد تقود الى اعادة النظر بتركيبة او تشكيلة النظام الدولي مراعاة لمصالحها .
وان الاطراف الدولية التي قد تكون وافقت على القيادة الامريكية الاحادية للعالم بعد انتهاء الثنائية القطبية ، بانهيار الاتحاد السوفياتي ، فانها قد فعلت ذلك من باب الاعتراف بامتلاك الولايات المتحدة للامكانات والقدرات المادية التي تؤهلها لذلك ، شريطة عدم اساءتها لهذه الاحادية .
وما حصل ان اميركا اخلت بهذا الشرط ، وكانت البداية من غزوها للعراق وافغانستان ، لتستمر في تحديها للمنظومة الدولية ، وصولا الى عهد الرئيس ترامب الذي واصل اختراقه وانقلابه على اركان البناء الدولي وقواعده ، والذي يفترض انه في عهدته ومن مسؤوليته . فاذا به يضرب عرض الحائط بالمرجعيات والمنظمات والاتفاقيات والقرارات الاممية ، حيث وجه نحو الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الايراني ( بغض النظر عن الموقف منه ) ومنظمة اليونسكو ومجلس حقوق الانسان واتفاقية الشراكة عبر الهادي ، واعادة النظر باتفاقية الشراكة عبر الاطلسي والتبادل الحر مع كندا والمكسيك ، واالدخول في حرب تجارية مع قوى دولية فاعلة كالصين والاتحاد الاوروبي وكندا واليابان وغيرها ، والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاسرائيلي ، ونقل مقر السفارة الاميركية اليها ، منتهكا بذلك القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة والقرارات والمرجعيات الدولية ، التي تعتبر القدس مدينة محتلة ومن قضايا الوضع النهائي التي يحسم مصيرها بالتفاوض ، ولا سيادة اسرائيلية عليها .
ما يبعث باشارات خطيرة تنم عن مستقبل غامض ومجهول ينتظر العالم ، اذا ما تركت الامور تدار بهذا الطريقة الفردية السلبية ، بعيدا عن الاسس والضوابط التي شكلت ما يسمى بالارضية او القاعدة التي قام عليها النظام الدولي . ما يجعلنا امام احتمال تشكيل اقطاب او محاور دولية جديدة ، قد تدفع باعادة تشكيل الخارطة الدولية من الاحادية الى المتعددة الاقطاب ربما من اجل حماية المنظومة الدولية من المخاطر والتهديدات ، التي قد تعترضها جراء الانقلاب الترامبي على القواعد الدولية ، والاخلال بشروط القيادة العالمية .
ولنا في محاولة دول اوروبا اقامة مظلة امنية خاصة بها ، بعيدا عن المظلة الامنية الاميركية ، ما يؤشر الى استعداد اطراف دولية ، لاعادة النظر في اولوياتها وحساباتها ، وتبني سياسات واستراتيجيات وتوجهات جديدة من اجل حماية مصالحها ، حتى لو اقتضى ذلك الدخول في محاور واحلاف مع دول واطراف اخرى متضررة من النهج الاميركي الصادم ، والذي ينذر باحتمال وقوع مواجهات مستقبلية بين حلفاء الامس تحديدا ، بغض النظر عن طبيعة هذه المواجهات والادوات المستخدمة فيها . المهم ان هناك ما يبرر او يدفع بالامور ويضعها امام احتمال اعادة النظر بتركيبة النظام الدولي ، بحيث يأخذ شكلا جديدا يراعي بصورة اوسع واشمل المصالح العالمية من بوابة رد الاعتبار للادوات والاليات التي يعول عليها في ادارة شؤون المنظومة الدولية ، ممثلة بالمرجعيات والمنظمات والاتفاقيات الدولية .
ولنا ان نتخيل احد هذه السيناريوهات التحالفية التي لا نستبعد حدوثها ، ممثلا باقامة محور عالمي يضم دول الاتحاد الاوروبي والصين وروسيا واليابان وحتى بعض القوى الاقليمية الفاعلة والمؤثرة ، بحيث تجتمع الكثير من عناصر القوة الصناعية والتقنية والمالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والبشرية في محور واحد قادر على ردع الولايات المتحدة وضبط سياساتها وتصرفاتها المتهورة ، التي باتت تهدد العالم بالفوضى وعدم الاستقرار ، بما يشبه الاعلان عن اقامة نظام دولي جديد اكثر امنا واستقرارا .
عند ذلك سنتيقن بان الادارة الاميركية هي من حرضت الاطراف الدولية والاقليمية المؤثرة ودفعت بها الى هذه الصحوة والاستفاقة من اجل حماية مصالحها اولا ، وجعل العالم اكثر امنا واستقرارا ثانيا . تأكيدا على عدم وجود صداقات دائمة او عدوات دائمة في عالم السياسة والعلاقات الدولية ، بقدر ما توجد هناك مصالح دائمة ، هي من يحدد ، ليس سياسة الدولة او الدول فحسب ، بل شكل النظام الدولي وتركيبته ايضا .