اليكَ يا وطناً سكنَ فُؤادي، واستقرَّ في كلِّ جُزيءٍ منْ جَسدي، يا دماً يَسري في عُرُوقيِ، يُحيِ نَفساً كَانتْ في غَيبوبَةٍ لِسنوَاتٍ طويلةٍ بَقيتُ فِيها على قَيدِ الحياةِ، ولكنَّها لم تَكنْ تَشْعُر بِلذَّتها، حياةٌ مليئةٌ بِالغربَةِ والوَحدَةِ، كُلُّ شيءٍ حَولَها كَانَ غَريباً مُسْتنْكراً، ليسَ لهُ طعمٌ ولا رائِحةٌ ولا لون.
كُلُّ مافيها لم يكن يُشبِهُني، كلُّ مافيها كَانَ غَريباً عنِّي، أناسٌ من كلِّ جنسٍ ولون، أشكالُهم مُختلفةٌ، الوانُهمْ مُحتلفةٌ، لمْ أشعرْ يَوماً بالتَّآلفِ مَعَهُمْ رَغْمَ سِنينَ الغُربةِ الطَّويلةِ، لَمْ أعتَدْ عليهِمْ ولَمْ يَعتادُوا علي .
في الغُربةِ يَضيعُ مِنكَ الإحساسُ بالأمانِ والإِستقْرارِ، حياتُكَ دَائِماً متقلِّبةٌ، كلُّ شيءٍ حَوْلَكَ غَامِضٌ ومُبْهَمٌ، تَخَافُ مِنَ الإِقْتِرابِ مِنْهُ، وبِذَاتِ الوَقْتِ تعيشُ دَائِماً هاجِسٌ لا بُدَّ أنَّكَ سَتَرحَلُ يوماً وتَتْرُكَهُ لأنَّهُ ليسَ لَكَ.
وطنُكَ هو سَنَدٌكَ في هذِهِ الحَياةِ وهو الوَحيدُ الَّذي لا يُمكِنُ أنْ يتخلَّى عنْكَ وَقْتَ الشِّدَّةِ، إنَّهُ صديقٌ وفيٌّ، أبٌ حنونٌ وأخٌ صَالِحٌ ونَاصِحٌ لَكَ، وأمٌّ رَؤومٌ تضمُّكَ بَينَ أضْلُعِهَا، وتُطْبِقُ عَليْكَ وَتَحْتَضِنُكَ بِشدَّةِ وكأنَّها تَقُولُ لَكَ إبق عِنْدي، مَكانَكَ واسْتِقْرارُكَ بَيْنَ أحْضَانِي، ولَنْ تَجِدَ مَكَاناً في الدُّنْيَا يَحْنُو عَلَيْكَ وَيُحِبُّكَ كَمَا أُحِبُّكَ وَيَحْتَوِيكَ كَمَا أَحْتَوِيكَ .
قَضيْتُ عُمري في الغُربَةِ وأنَا أنْتظرُ العَودةَ إَليْكَ يَا أُردُنِّي الحَبيبْ، أيَّامُ الغُربَةِ لا أحْسِبُهَا مِنْ عُمْرِي، أعْتَبِرُهَا عُمْراً ضَائِعاً لَمْ أَجِدَهُ إِلَّا عِنْدَمَا وَجَدتُّكَ وَعُدْتُّ لِأَرْتَمِيَ فِي أَحْضَانِكَ، إِسْتَعَدْتُّ أَنْفَاسِي، إِسْتَعَدْتُّ حَيَاتِي، إِسْتَعَدْتُّ فَرْحَتِي وَسَعَادَتِي المَفْقُودَة.
دَائِماً مَا كَانَ يُوَجَّهُ لِي ذَاتَ السُّؤالِ، مَا سِرُّ حُبُّكِ وَعِشْقُكِ الجُنُونِيُّ لِبَلدٍ صَغِيرِ المَسَاحَةِ، يَفْتَقِرُ إلى المَوَارِدِ والثَّرَوَاتِ، قَدْ أَنْهَكَهُ الفَسَادُ وأَثْقَلَهُ الفَقْرُ، يُصَارِعُ بٍكُلِّ مَا أُوْتِيَ مِنْ قُوَّةٍ لِكَيْ يَعِيشَ حَيَاةً كَرِيمَةً، أَجَبْتُهُمْ آهْ لَوْ تَأْخُذُوا عَيْنَايَ فَتَرَوْهُ بِهِمَا، إنِّيِ أَرَاهُ بِفُؤَاديِ قَبْلَ عَيْنَايْ، أَرَى فِيهِ جَمَالاً لا يَرَاهُ إلَّا عَاشِقاً فِي مَعْشُوقَتِهِ، أَرَى فِيهِ كُلَّ الجَمَالِ وكُلَّ الجَلَالِ، أَسْمَعُ تَغْرِيدَ البَلَابِلَ وزَقْزَقَةِ العَصَافِيرِ، أَرَى جَمَالَ الشَّجَرِ وَقُوَّةَ الصَّخْرِ والحَجَرِ وكَأنَّ شَعْبَهُ قَدْ جُبِلَ مِنْهُ شَعْباً قَوِيَّاً صَلْباً يَسْتَطِيعُ أنْ يَحْتَمِلَ مَالا يَحْتمِلَهُ أَحَدٌ مِن البَشَرْ.
أَرَى فِيهِ سِحْرَ الفُصُولِ الاَرْبَعَةِ، حُزْنَ الخَرِيفِ وَقَسْوَةَ الشِّتَاءِ وَدَلَالَ الرَّبِيعِ وَحَنَانَ الصَّيْفِ، مَزِيجٌ غَرِيبٌ وَمُتقلِّبٌ إلَّاَ أنَّهٌ يَبْقَى شَامِخَاً، شَجَرَةٌ قَوِيَّةٌ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهاَ.
لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الخَرَيفُ العَرَبِيُّ مَا نَالَ مِنْ جَارَاتِهَا، وَلَمْ يُفْقِدْهَا أَوْرَاقَهَا وَرَوْنَقَهَا، بَلْ زَادَهَا جَمَالاً فَوْقَ جَمَالِهَا، وَقُوَّةً فَوْقَ قُوَّتِهَا، وَصَلَابَةً تُحْسَدُ عَلَيْهَا، تَغَنَّى بِهَا العَالَمُ بِأَسْرِهِ وَأَشَارَ إِليْهِ بِالبَنَانْ، أَرَى فِيهَا وَطَنَاً جَمِيلاً وَشَعْباً أَجْمَلْ، شَعْبٌ أَبِيٌّ حُرٌّ لَا يُنَادَى إِلَّا بِالنَّشْمِيِّ، لَمْ يُذِلَّهُ فَقْرٌ، وَلَا كَسَرَتْ عِزّةَ نَفْسِهِ حَاجَة، رَأْسَهُ دَائِماً مَرْفُوعَةٌ وهِمَّتَهُ أَبَداً عَالِيَة، لله دَرُّهُ شَعْبٌ أَرَادَ الحَيَاةَ فَاسْتَجَابَ القَدَرْ، وَأَبَى أَنْ يَحَي بِالمُسْتَنْقَعِ بَيْنَ الحُفَرْ، شَعْبٌ ضَرَبَ أَرْوَعَ مِثَالاً لِلعَالَمِ بِأَسْرِهِ بِالوَعْيِ وَالثَّقَافَةِ وَالقُوَّةِ وَالصَّلابَةِ والتَّعَاوُنِ وَالرُّقيِّ وَالفَهْمِ والتَّعلِيمِ وَالنَّخْوَةِ وَالشَّهَامَةِ وَالحِرْصُ عَلَى سَلَامَةِ الوَطَنِ وَأَمْنِهِ وأَمَانِهِ، شَعْبٌ مِضْيَافٌ احْتَضَنَ إِخْوَتَهُ الَّاجَئَينَ مِنَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ المُجَاوِرَةِ، حَقَّقَ جَمِيعَ مَطَالِبَهُ فِي الأحْدَاثِ الأخِيرَةِ دُونَ أنْ تُرَاقَ قَطْرَةُ دَمٍ وَاحِدَةٍ، وَمِنْ دُونِ أَنْ يَتَأَذَّى إِنْسَانْ.
أَرَى وَطَنِي قِيَادَةً حَكِيمَةً وَرَشِيدَةً هَمُّهَا مَصْلَحَةُ الوَطَنِ وَأَمْنِهِ وَأَمَانِه.
عِشْقِيَ الأُرْدُنُّ، أَنْتَ بِاخْتِصَارٌ وَطَنٌ كَامِلٌ مُتَكَامِلٌ،أَنْتَ مُعْجِزَةٌ قَائِمَةٌ بِحَدِّ ذَاتِهَا، حَفِظَكَ اللهُ وَرَعَاكَ مِنْ حِقْدِ الحَاقِدِينَ وَكَيْدِ الكَائِدِينَ وَمَكْرِ المَاكِرِينَ وَأَبْقَاكَ ذُخْراً وَسَنَدَاً آمِناً مُطْمَئنَّاً مَابَقيَ الدَّهْرُ وَمَابَقِيَتْ عَلَى وَجْهِ الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ حَيَاة.