بينما كنت بمعية والدي الحاج فهيم المحمود بمنزلنا الكائن في عروس الشمال، أحس والدي - بعاطفة الأب وإلهام الشاعر المرهف - أن ابنه ليس على ما يرام مع أنني لم أنبس ببنت شفة، ولم أشكُ إلى قرة عيني وسر وجودي زمانا يجعل الحليم حيرانا، وإذ به - حفظه الله - وبعد أن عجز عن استنطاقي بشأن ما ضاق له صدري، وفي معرض مسعاه للتفريج عني، تذكر أنه لم يذبح لي سوى عقيقة واحدة حين أبصرت النور في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة إربد قبل نحو أربعة عقود من الزمن، ثم أخذ يبرر لي ويشرح الأسباب الموجبة للاكتفاء بكبش واحد لا كبشين معللا ذلك بضيق ذات اليد وضعف الإمكانيات المادية للناس عموما في ذلك الحين، ثم أقسم بأغلظ الأيمان أن يوفي الكيل ويزن بالقسطاس المستقيم إسوة بأخوتي الذكور الذين عق لهم بذبيحتين، فاقتادني إلى إحدى الملاحم في قرية حوارة شرقي المحافظة، وأنا أكاد أذوب خجلا، وأقول في نفسي وقلبي يدمع من الحزن: متى وكيف سأرد لهذا السبعيني العظيم ولو نقطة واحدة من بحر سخائه وعنايته التي أنعم بها علي وعلى أخوتي هو ووالدتي أطال الله عمرهما، وما زال فيض عطائهما مستمرا حتى ونحن في هذا السن، فيما هما يرفضان رفضا قاطعا ما يصفانه بالنزوح إلى العاصمة عمان حيث أقيم أنا وكافة أخوتي بحكم ظروف العمل، ويعتبران محافظة إربد بالنسبة لهما كالماء بالنسبة للأسماك.
وصلنا إلى الملحمة واختار أبي من الحلال أجوده، وأخذ يشرح للقصاب ظرفه الصحي الذي بات يحول بينه وبين الذبح بيده كما كان يفعل أيام الشباب، وهنا دار حديث جانبي بيني وبين صاحب الملحمة وهو شاب ثلاثيني سمح الوجه طلق المحيا اسمه (علي عطية سلامة عويضة)، وبينما كان الكلام يجر كلاما، وإذ بي أكتشف بالمصادفة أن عليا هو الذي يعود له الفضل بعد الله في كشف الخيوط الأولية لحادثة التهريب الشهيرة التي وقعت قبل نحو عام وحاول خلالها ضعاف النفوس تهريب كمية هائلة من المخدرات تقدر بنحو مليون حبة كبتاجون في أحشاء 300 رأس من الأغنام، كانت في طريقها إلى حيث يعلم الله. وشرح لي علي التفاصيل التي قادت إلى إحباط تهريب هذه الشحنة الهائلة من السموم الفتاكة، حيث لا حظ سائق الشاحنة آنذاك أن أحد الخراف يزبد ويوشك على النفوق، فما كان منه إلا أن اتصل بصاحب الشحنة وأخبره، فطلب منه الأخير أن ينزل الشاة المصابة ويذبحها ويلقي بها في صحراء المفرق ثم يكمل مسيره، فلم يستجب السائق حين رأى في ذلك نوعا من الهدر للنعمة، فاتصل بأحد أقربائه الذي جاء بدوره من مكان قريب وذبح البهيمة قبل أن تنفق، ثم حملها بسيارته إلى ملحمة صاحبنا (علي عويضة) لسلخها وتقطيعها، وهنا وقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، حيث قام علي على الفور بكل بسالة وشجاعة بإبلاغ السلطات المعنية التي هرعت بسرعة الضوء للقيام بالواجب. لقد عرض لي علي فيديو صوره داخل ملحمته لما وجده في أحشاء تلك الذبيحة، وهو مشهد تقشعر له الأبدان، وأخبرني أن أباه أيضا عق له بكبشين أملحين حين وُلد، وعلمه البر بوطنه كما البر به.
إن بطولة علي لا تنتقص من بطولة نشامى الأجهزة الأمنية ومغاوير المكافحة، فكلنا يكمل بعضه بعضا، ولقد علمنا آباؤنا بالفعل حب الوطن والغيرة عليه بحيث يصبح كل واحد منا رجل أمن حين تقتضي الضرورة، ولكي نعظم هذه الثقافة أكثر، علينا أن نقول لمن أحسن أحسنت، ولمن أجرم خسئت، ولا أقل من تكريم هذا المواطن الشجاع تكريما رسميا يليق بشهامته ونبله بعد أن حال هو ونشامى إدارة مكافحة المخدرات دون ضياع شباب ودمار أسر بأكملها على يد مجرمين أقرب بفعلتهم هذه إلى الشياطين منهم إلى البشر.