ليس سرا أن ما باتت تعرف بصفقة القرن قد أنجز السواد الأعظم منها بالفعل، وفق استراتيجية (صهيو-أمريكية) ارتكزت على محورين أساسيين، أولهما تهيئة الظرف الفلسطيني والعربي للقبول القسري بالحلول الأحادية للصراع العربي الإسرائيلي، وثانيهما سحب ملف القدس من طاولة المفاوضات عبر نقل السفارة الأميركية إلى ما اعتبره ترامب العاصمة الأبدية للشعب اليهودي ضمن سياسة فرض الأمر الواقع.
بالنسبة للمحور الأول المتعلق بتهيئة الظرف الفلسطيني والعربي للقبول القسري بالصفقة، فقد استطاع الحلف الأميركي الإسرائيلي تشظية الواقع الفلسطيني وتكريس الانقسام الأهلي الحاصل هناك على نحو باعد بين الفلسطينيين وبين حلم إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة، فضلا عن إضعاف حق تقرير المصير أمام عدم وجود قيادة فلسطينية موحدة ومخولة للحديث باسم الشعب الفلسطيني، ناهيك عن النشاط الاستيطاني المحموم والتنسيق الأمني "المقدس" كما وصفه الرئيس عباس، والذي كرس هو الآخر فكرة إقامة كيان فلسطيني منزوع السيادة وخاضع للهيمنة الإسرائيلية المطلقة برا وبحرا وجوا.
أما على المستوى العربي فقد تمكنت السياسة التخريبية التي تبنتها أميركا وإسرائيل في المنطقة بشكل غير معلن، من إنهاك الواقع العربي سياسيا واقتصاديا وأمنيا، فعلى المستوى الأمني بدأت المؤامرة منذ لحظة الغزو الأمريكي للعراق، وفتح البوابة الشرقية للنفوذ الفارسي، وما أعقب ذلك من حروب وكالة ودعم لخلايا إرهابية من المرتزقة والباعة المتجولين للقتل تحت شعارات طائفية، بهدف تعميق حجم العقدة الأمنية في دول المنطقة لا سيما الخليج العربي، وعملقة الخطر الإيراني إلى حد دفع العرب للاستجارة من الرمضاء (إيران) بالنار (إسرائيل) والتعامل مع الأخيرة على أنها حمامة سلام في حال قورنت بقتلة مأجورين يفصلون الرؤوس عن الأجساد ويحرقون النساء والأطفال وهم أحياء .
ولعل المليشيات التي ترفع زورا شعار الجهادية السلفية وتدعمها أميركا وإسرائيل استطاعت الإسهام بفاعلية في تدمير جيوش عربية بأكملها فضلا عن جر حزب الله اللبناني إلى المستنقع الاستنزافي ذاته، وتجذير نزاع طائفي مقيت ووهمي بين السنة والشيعة، مع أن لا هذا يمثل السنة ولا ذاك يمثل الشيعة.
وعلى المستوى السياسي وفي سياق تهيئة المنطقة العربية للقبول القسري بصفقة القرن أيضا، تم بنجاح إضعاف مجلس التعاون الخليجي وتغذية النزاعات البينية (الخلاف القطري أنموذجا)، وتغذية التباين الحاصل في المواقف بين العديد من التحالفات العربية التي كانت قائمة من قبيل ما كان يعرف بمحور الاعتدال. ومن لم يسقطوا بأحد العوامل المذكورة، سعت قوى الشر العالمي إلى إسقاطهم اقتصاديا عبر زيادة حجم الضغوطات السياسية والأمنية والاقتصادية على الدول المانحة لهم، بشكل بات ينذر بفوضى وثورات جياع يمكن معها المباشرة الآمنة بتنفيذ الفصل الأخير المتبقي من صفقة القرن لتصبح ناجزة تماما، في غفلة من عين أمة انشغلت بنفسها.
إن الجولات المكوكية التي تقوم بها لإدارة الأمريكية حاليا تمهيدا لتنفيذ الجزء المتبقي من صفقة القرن، سيتمخض قريبا عن إعلان بنود هذه الصفقة على نحو سيتيح لإسرائيل وحلفائها السريين والعلنيين التوقيع على تطبيع للعلاقات مع دول عربية وازنة بغض النظر عن مسار المفاوضات باتجاه الواقع الفلسطيني، ذلك أن الثمن يتعلق بإيران وما تم دفعه على الطاولة من أموال بشكل مباشر لإنعاش الخزينة الأمريكية، مع محاولة الضغط على الجانب الفلسطيني لإنجاز الجزء المتعلق به، وسيكون هناك اتفاقيات اقتصادية كبرى بموازنات مالية هائلة، أما على المستوى الفلسطيني، فقد يتم الإعلان عن التفاوض حول دولتين منزوعتي السيادة في كل من غزة والضفة، على أن ينضويان لاحقا ضمن اتحادات إقليمية مع دول الجوار، مع الدفع باتجاه توطين اللاجئين حيث يقيمون، وتسمية جغرافيا مقدسية معينة كعاصمة للضفة الغربية مثل (أبوديس) ووضع المقدسات الإسلامية والمسيحية تحت وصاية أردنية فلسطينية إسرائيلية مشتركة.
إن الجزء من التسوية المتعلق بفلسطين والقدس لا ينبغي أن يمثل مبعثا أحاديا للقلق لأنهم لن يمروا إلا على جثامين ملايين الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها، وسوف لن يكون هناك تسوية على قضايا الوضع النهائي إلا باستفتاء شعبي، لكن ما يثير قلقي الوجودي زيجات المتعة (الصهيو-عربية) التي سيتم الإعلان عنها قريبا ضمن أسوء أشكال الحسم لنحو ستين عاما من دموع التماسيح على فلسطين العربية المحتلة.
ليس أمام الأردن والفلسطينيين سوى رفض التوقيع على أي صفقات مشبوهة تنال من حقهما التاريخي الثابت، وسيأتي اليوم حتما الذي تطبق فيه مقررات القانون الدولي ضد أطول احتلال في التاريخ، فالولايات المتحدة (والدة إسرائيل بالتبني) تعيش عنفوانها الحضاري وهي الآن في المرحلة ما قبل الأخيرة من مراحل نمو الحضارات، حيث ستشيخ قريبا وتنتهي قطبيتها الأحادية على نحو يجعل العالم أكثر عدلا وأمانا.