امام الخطاب الاسلامي -على اختلاف مستوياته- فرصة تاريخية للتحول والتجدد للانتقال من دائرة الجمود “والطاعة” والتمترس وراء الحرفية والشكلانية الى دوائر اوسع من “المقاصد” والاعتبارات الكلية والقضايا العامة التي تشكل جوهر الدين وتعبر عن وظيفته العليا واهدافه الشاملة.
لا شك بان خطابنا الاسلامي - الفقهي والدعوي- قد عانى في العقود الماضية من تناقضات وثنائيات قاتلة، ولا شك بان دوائر “التدين” غير الصحيح قد اتسعت في مجالنا العام والفردي على حد سواء، بحيث اصبح “التدين” معزولا عن حياة الناس وقضاياهم ومقتصرا على “اداء” عبادي شكلي لا يعبر حقيقة عن روح “الاسلام” ولا عن قيمه ومبادئه التي تسعى الى “تكريم” الانسان من خلال عمارة الدنيا من اجل عمارة الاخرة، لا الخطاب وتنعكس بالتالي على تدين الناس وفهمهم لدينهم وعصرهم معا، ومن ابرزها انتقال الدين حضورا وتأثيرا من دائرة الفرد الى المجتمع، او من المجال الفردي الى المجال العمومي بحيث اصبح “التدين” المجتمعي باعثا على الحركة والعمل بعد ان كان محصورا في الافراد وعلاقاتهم مع الله تعالى، والتقليد الى اطار “الابداع” والمبادرة فلأول مرة في عصرنا الحديث نسمع عن فتاوى تحرض على “التغيير” واخرى تدعو الى اولوية الحرية والكرامة، بمعنى ان القضايا الكبرى التي كانت في دائرة المسكوت عنه فقهيا اصبحت “موضوعا” للفتوى والحديث والدعوة، ويمكننا ان نتابع “فتاوى” ما بعد مرحلة الاحتجاجات في العالم العربي على امتداد السنوات الماضية لنفهم ذلك، وهذا ينطبق ايضا على “اصول الدعوة” وفقهها واصحابها، هؤلاء الذين اصبحوا فاعلين في مجال “التنوير” الاحتجاجي بعد ان كان معظمهم “لاعبين” في مجال “التزيين” السياسي.
ثمة تحولات متواضعة ولكنها مشجعة اصابت خطابنا الاسلامي والفضل فيها لحركة الناس واحتجاجاتهم لكنها ستبقى ناقصة ما لم ينهض الفقهاء والدعاة الى استثمار هذه المناخات الجديدة في عالمنا العربي للتحرك نحو فقه جديد ينقل تديننا من حالة “الطاعة” الى “الاحتجاج” ومن السكون الى الحركة ومن التقليد الى الابداع ومن ممالاة السياسة الى الاشتباك معها، ومن التحالف مع السياسي الى التعامل الندي معه، فقه جديد يضع “الانسان” العالم والمكرَّم في المقام الاول وينتصر لقضايا الناس واولوياتهم ويتصالح مع العصر ومستجداته وينهي حالة “الانقسام” والشرذمة التي اصابت العمل الاسلامي في مقتل ويمهد لمرحلة جديدة من المساكنة والعمران بين المسلمين بعضهم وبينهم وبين الآخرين في العالم.
هذه بالطبع، احدى فضائل حركة الشعوب في علاقتها مع الدين وهي فضيلة يمكن ان تساهم في تحرر “ديننا” وخطابنا الاسلامي العام من كثير مما اعتراه من ارتباك وتراجع، ويمكن ان تدفع فقهاءنا ودعاتنا الى التصالح مع مطالب الناس وقضاياهم وان تقنعهم بان “وظيفة” الدين لا تقتصر على تطهير الافراد من الذنوب وانما تطهير المجتمعات منها ايضا ولا تختزل في “فقه” العبادات والطقوس وعلاقة الانسان بخالقه، وانما فقه “المعاملات” وفقه الواقع والامة وعلاقة الانسان مع اخيه الانسان ايضا.
الدستور