نحن في قبضة الزمن الرديء .. !!
أ.د عمر الحضرمي
21-06-2018 12:40 AM
ليس هناك في الدنيا شيء أسوأ من أن ترى الإنهدام الأخلاقي يتمدد أمام ناظريك دون أن تقدر على إيقافه، ولا يمكن أن تلقى، في سنيّ عُمْرك، عفناً أكثر من أن «يُنْهق» أحد الغرباء قادماً من وراء الحدود يطالبك بتنفيذ أوامره
وكأنه هو صاحب البيت، وصاحب القرار، وأن أهل الأرض، وأهل الوطن هم مستأجرون عنده، أو أنهم أقنان وعبيد له.
قبل فترة أصدرت الإدارة الأميركية بياناً رسمياً مضمونة منع الدولة السورية من الدخول إلى درعا، وهددتها بالويل والثبور إنْ هي فعلت ذلك. وهنا نسأل، سواء كنا مع النظام السوري أم ضده، هل أميركا صاحبة أي قرار، أو أي حق، أو أي رأى، أو أوامر تستطيع فرضها على أرض دولة أخرى؟ وأليس درعا هي جزء من إقليم سوري، إدارته منوطة بالمؤسسة الرسمية السورّية؟
وقبل ذلك ومعه، ملأت إسرائيل الدنيا صراخاً وهي تقول: بأن الحكومة (الصهيونيّة) ترفض أن يدخل أحد إلى الأراضي السورية دون رضاها ودون موافقتها، وهي الوحيدة التي تقرر من يدخل إلى سوريا ومن يجب أن يغادرها، والمدة التي يجب أن يمكثها هناك؟.
وفي كل صباح، ومع غياب آخر خيوط النور، وفي عتمة الليل، يقف نتانياهو على أول مرتفع يجده في طريقة، ويصيح مهدداً أي «ابن امرأة» يريد أن يدخل الأراضي السورية من شمالها أو من جنوبها ومن شرقها أو من غربها، قائلاً إنه: سيقتل، ويحرق ويطرد، كل امرئ، إذا كان قراره بالدخول إلى سوريا دون موافقة إسرائيل.
وعلى المقلب الآخر، فإن «البعض الأوروبي»، ومنذ استكمال جرائمه الاستعماريّة في العصور السالفة، وهو يمارس السطو على الأرض العربيّة، وهنا فإننا نلحظ أن تدخلاته وممارساته هذه الأيام هي أخطر وأوسع وأشرس وأقذر من ممارساته في المرحلة الاستعمارية الأولى.
بل وذهب الأمر بهذا «البعض» إلى أن يتدافع، بكل علنيّة وعنجهيّة، نحو إعادة احتلال المنطقة العربية، والاستيلاء على ثرواتها وعلى قرارها، وأباح لنفسه، وبكل جرأة، أن يحرق الأرض وما فوقها، بل وأن قراراته قد فاجأت بعضاً من هذا البعض، ومثل ذلك ما تعرضت له ليبيا، ومما تتعرض له العراق وسوريا وجزء مما يجري على الأرض اليمنيّة.
حقيقة، شيء يبعث على الأسى، وأمر لا يمكن أن يُسمّى إلا أنه استكانة وقهر ومذّلة وخنوع في هذا الزمن الردئ. هل يعقل أن نرهن قضايانا لنتائج انتخابات هذه الدولة الأجنبية أو تلك؟ وهل يمكن أن نقبل على أنفسنا أن نكون عبيداً لدولة في الشرق أو دولة في الغرب، ونحن الذين كنّا نبني أركان التاريخ ونرسم صوره؟ هل من أحد يستطيع أن يفسّر للأجيال القادمة كيف أننا خسرنا الدار والتراب والماء والهواء في أقل زمن بين طلوع الشمس ومغيبها وقبل أن يرتد إلى أحدنا طرْفه؟ لماذا أصبح حاضرنا ومستقبلنا يعتمدان على مجيء هذا الرئيس الأميركي أم ذاك، ورئيس الوزراء
البريطاني هذا أم ذاك، وهذا الرئيس الفرنسي أم ذاك، حى أننا بتنا ننتظر اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي القادم؟ ما هذا الحال الذي وصلنا إليه؟ لا بد وأن نعيد قرارنا السياسي إلى أحضاننا، وأن نصنعه بأيدينا.
شيء مزري، ومملؤ بالبكاء حتى الضحك لأن شر البلية ما يضحك، وشيء لم يعد عقل يستطيع استيعابه أو فهمه، في لحظة نتدافع لنقاتل بعضنا بعضاً، ليس على مستوى الدول ولكن حتى على مستوى الأفراد. رَكَنّا جانباً كل أواصر القربي والأخوّة، وحملنا السلاح بكل الوانه ليذبح قابيلُنا هابيلُنا، وليقطع الإبن أوداج رقبة أبيه، ويفصل الأب رأس أبنه عن جسده، كل ذلك حتى يصفق لنا الغريب، ويلقي الينا الأجنبي بفتات الخبز الذي دفعنا ثمنه من دمائنا ومن شرايين مواردنا وخيراتنا وكرامتنا.
الزمن الرديء بات يطوّق أعناقنا ويجثم على صدورنا، وصرنا نتبعه كالجراء الجائعة التي إنْ لوّح لها أحدهم بقطعة عظم ركضت وراءه لاهثة.
الزمن الرديء أصبح يحتل خانة في بطاقاتنا الشخصيّة، وأصبح هو يوم ميلادنا، وأيام شبابنا، ونهارات كرامتنا، وليالي عزّنا بعد أن أسكناه في قلوبنا وعقولنا وجوارحنا وشرايينا. الزمن الرديء أمسى يملك كل ناصية فينا، صرنا نؤدي له كل فروض الطاعة وسنن الولاء، ذلك لأن الغرباء نعقوا في وجوهنا وأمرونا أن نطيع أوامرهم، وحرمونا حتى حق إبداء الأحساس بالإلم. باالله عليكم لو أن أثنين أو ثلاثة فقط من الرجال الذين كانوا حول الرسول صلى االله عليه وسلم خرجوا من مدافنهم ورأوا حالنا ماذا سيقولون؟ وماذا سيخبرون سيدي الرسول صلاة االله عليه وسلامه؛ وهل سيُبْقون على خيط واحد أو شعرة واحدة تربطهم بنا؟ حتى اسماؤنا سيطلبون منا تغييرها لأن لكل أمرئ من إسمه نصيب.
إن المهزلة التي يمكن أن تكون نواة لكوميديا سوداء غاية في الغرابة والعجب، سيناريوهاتها وممثلوها جاهزون ليلعبوا أدوار حجارة الشطرنج، نقصد بذلك الاجتماع الذي عقد في باريس مؤخراً برئاسة الرئيس الفرنسي ماكرون لحل الأزمة الليبية، التي خلقها أصلاً سلفه ساركوزي، يعني، بكلام آخر، أن باريس هي التي أسست لهذه الأزمة بقرار منها ومن رفاقها، واليوم هي التي تقول: إنها هي المخوّلة لحل هذه الأزمة، هل هناك مهزلة أكبر من هذه، وهل هناك زمن أكثر رداءة من هذا الزمن.
اسألك باالله يا تاريخنا العظيم أن لا تلتفت نحونا لأنك سترى حالنا المقيت. نحن يا سيدي نخجل حتى من أنفسنا، فكيف لا نموت خجلاً منك، أيها الزمن الرائع!!.
الرأي