في وقت مضى، افتتح احد الوزراء «بازار» التصريحات فأعلن بعد يوم واحد من دخوله الى الوزارة» انه سيشهر في غضون شهرين «استراتيجية» جديدة تحدد عمل الوزارة في السنوات القادمة.
أتوقع -بالطبع - ان تتكرر عدوى مثل هذه التصريحات الثقيلة، فنسمع من معظم وزرائنا في الحكومة الجديدة انهم سيعكفون في الايام او الاشهر القادمة على اعداد «استراتيجيات» تحدد عمل وزاراتهم في المرحلة المقبلة وربما يجتهد بعضهم فيخصص «العام القادم» عاما للميدان الذي تتولاه وزارته ، ولا استبعد -ايضا - ان تبدأ في الوزارات حملات «لتغيير» المواقع واخرى للاستغناء عن بعض الموظفين وثالثة لاصدار قرارات وتعليمات جديدة ورابعة لاطلاق خطط هيكلية تبدأ بالعمل من الصفر وكأن الوزارة قد انطلق عملها الآن.. او كأن ما تم انجازه قد ذهب ادراج الرياح.
لا ادري من اين جاءتنا «موضة» الاستراتيجيات التي غالبا ما تشغلنا وتضيع اوقاتنا بالكلام والتنظير ثم تبقى حبرا على ورق، ولا ادري ايضا لماذا نحن شغوفون باصدار مثل هذه الخطط الكبيرة التي يحتاج تنفيذها الى سنوات وربما عقود ولماذا كلما جاء مسؤول جديد طوى سجل من قبله وبدأ من نقطة الصفر.
افترض ان لدينا مؤسسات قائمة وان لدى الحكومة خططا معلنة ولدى كل وزارة برنامجا معروفا وقد سمعنا عن «برامج واستراتيجيات حكومية» لسنوات طويلة قادمة ، فلماذا اذن يعدنا بعض وزرائنا «باستراتيجيات» جديدة .. اليس من الف باء «المؤسسية» ان يكون عمل المسؤول مكملا لمن سبقه ، وان يكون اجتهاده في تعديل المسار او تعجيل العمل والتنفيد.. او في ايجاد الآليات اللازمة للتطبيق بدل ان يشغلنا «بخطط» كبيرة بديلة لما تم وصفه من قبل سلفه والتزمت الحكومة به.
لا نحتاج الى «اشهار» استراتيجيات جديدة وانما الى انجاز افعال على الارض ، ولا نحتاج الى مزيد من الكلام الكبير والوعود وانما الى التزام بالتنفيذ وايمان بالعمل على ما تم انجازه فقد صرفنا من الوقت ما يكفي ويزيد على «استراتيجيات» يكتبها خبراء وتكلفنا مئات الالاف ثم توضع في الادراج وقد حان الوقت لكي نبدأ بالتطبيق ونحاسب انفسنا على «الاداء» لا على وضع الرؤى والخطط.
اذا كان لي ثمة رجاء فإنني اتمنى على السيد رئيس الوزراء ان يشطب من قاموس التصريحات الرسمية للمسؤولين كلهم مصطلح «استراتيجية» جديدة.. وان يطالبهم باعتماد منهج «التراكم» لا الحذف فيما يتعلق بعمل مؤسساتهم اذ لا يعقل ان يبدأ كل مسؤول من الصفر وان يكون دخوله الى مؤسسة ايذانا بمرحلة جديدة تجبّ ما قبلها.. وان تتشكل مع قدومه طبقة جديدة من الموظفين «التابعين» والآخرين المغضوب عليهم وكأن المؤسسة اصبحت ملكا للقادم الجديد.. وما ان يخرج منها حتى تنقلب رأسا على عقب.
في وقت مضى من تجربتنا في العمل العام كان موقع الوزير سياسيا وكان في كل وزارة وكيل يتولى تسيير امور الوزارة اداريا وكان الوزراء يتغيرون ويبقى عمل الوزارة واوضاع موظفيها ومواقعهم «وبرامجها» ثابتة. كان آنذاك ثمة «قيم» للوظيفة العامة وتعليمات واضحة يلتزم بها الجميع ، وكان المسؤول الاول يشكل «عقل» العمل وموجهه فقط ، ولم نكن نسمع عن «استراتيجيات» جديدة مع كل تعديل او تغيير وزاري لأن «استراتيجية» الوزارة والحكومة تمتد لسنوات طويلة.. ولأن همّ المسؤول آنذاك هو العمل والانجاز لا اطلاق التصريحات للإعلام وتطمين الناس بالوعود فقط.
الدستور