قتيبة بشابشة .. لقد سألتً الرزاز وأجابَك فهل يمكن أنْ تستمع إلى مواطن مثلك؟
أ.د. جهاد حمدان
17-06-2018 04:20 PM
قبل أسبوع من تشكيل الحكومة الجديدة تواصل الشاب قتيبة بشابشة مع رئيس الوزراء الرزاز (المكلّف آنذاك) عبر تويتر حيث سأله: ‘دولتك ممكن تصير الأردن زي ما بدنا بالقريب؟ يعني في احتمال نشيل الهجرة من راسنا ونصير نحب العيشة بالبلد ؟ جاوبني بصراحة وتجاملنيش!’
غرّد الرزاز اثناء مشاورات التشكيل الحكومي مجيبا فقال: ‘ يا قتيبة نعم شيل الهجرة من رأسك … بس كون مبادر وبمشاركة الجميع سنحقق ما نريد لنا وللأجيال القادمة إن شاء الله’
.لا أدري إن كان قتيبة يختبر الرزاز محاولا دفعه للإفصاح عن جانب من نهج حكومته المستقبلي عبر موقفه من توجه أعداد كبيرة من الشباب للهجرة بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها البلاد أم أنّ قتيبة كان يفكر فعلا بالهجرة وأراد نصيحة مستنيرة من الرزاز باعتباره سيكون صاحب ولاية وأنّ ما سيقوله هو الحق ولا شيء غير الحق.
ومهما يكن الأمر فقد طمأن الرئيس الشاب وطلب منه أن يشيل الهجرة من رأسه واشترط عليه أن يكون مبادرا بل وسّع الدائرة لتشمل مشاركة الشعب لنحقق ما نريد. ولم تمض أيام قليلة حتى أعلِنت الوزارة وأقسمت اليمين الدستورية. فهل أقنعت التشكيلة قتيبة وأقرانه أن يشيلوا الهجرة من رؤوسهم وينخرطوا في العمل العام ليحقق الرزاز والشعب ما يريدون؟ فقد استخدم الرئيس ضمير المتكلم في صيغة الجمع "سنحقق"، ليتماهى مع "الجميع".
لا أظن انّ ردود الفعل الشعبية على تشكيلة الوزارة اختلفت عن رد فعل قتيبة إزاءها. فقد عبرت عن خيبة أمل شديدة بالقادم الجديد. ومثّلت التشكيلة نكوصاً عما اشتملت عليه أجواء تشكيلها من "وعود" وتصريحات تبشر بمولود مختلف وإيماءات حول النية لتبني نهج جديد علاوة على حديث عن عقد اجتماعي. وأخذ المعترضون على دولة الرئيس إعادة توزير خمسة عشر عضوا من الحكومة السابقة وليس فقط الأربعة أو الخمسة الذين أومأ جلالة الملك في حديث سابق إليهم بأنهم كانوا يعملون. وجاء جماعة البنك الأهلي والمسنّون وبعض عديمي الخبرة وبعض المتحمسين لمشروع قانون الضريبة المسحوب وأنسباء وزراء سابقون أو "عدايلهم". وجاء في وسائط التواصل أنّ قتيبة خاب أمله وأنّ فكرة الهجرة في رأسه ازدادت رسوخا. وفي هذا السياق أتمنى على قتيبة أن يسمع هذه المرة من مواطن مثله كان في سنّه عندما أتيحت له فرص لمغادرة البلاد (الهجرة المؤقتة أو الدائمة) ولم يفعل.
من المفيد أن يعرف قتيبة أنني ولدت وترعرعت في عائلة كادحة كافحت فقط لتعيش. كنت طالبا مجتهدا وحصلت على ترتيب الثاني في المملكة في التوجيهي. فعرضت علي وزارة التربية بعثة دراسية إلى خمس جامعات في خمسة بلدان بعضها مغر لشاب في مقتبل العمر مثل الجامعة الأمريكية في بيروت والقاهرة وجامعة الكويت وجامعة السوربون في فرنسا. ولكنني كنت قد انخرطت في العمل العام (الأحزاب والسياسة)، فاخترت الجامعة الأردنية لدراسة اللغة الإنجليزية وآدابها. واستمريت على طريقتي في العمل أثناء الدراسة، وهنا أقتبس من تغريدة دولة الرئيس، "لتحقيق ما نريد لنا وللأجيال القادمة". ولم أكن وحيدا إذ شاركني في ذلك أعداد كبيرة من الشباب المتحمس، المحب لوطنه والمستعد للتضحية في سبيله. لم تكن الحكومات آنذاك أفضل حالا من التي تعاقبت فوصلتنا مراكمة مديونية بلغت 37.32 مليار دولار. بل كانت أسوأ من الناحية السياسية حيث مارست عملها في ظل الأحكام العرفية وكممت أفواه المعارضة وزجّت بكثير من قادتها وأعضائها في السجون وفصلت من كان منهم موظفا من عمله وحرّمت العمل في مؤسسات الدولة على من عرفته منهم وزيادة في التضييق منعتهم من السفر للعمل والدراسة بل وللعلاج في مرات كثيرة. وبالطبع كان هناك شباب كثر معارضون لسياسات الحكومات ونهجها الاقتصادي التدميري ظلت هويتهم السياسية والفكرية سريّة. هؤلاء استمروا مع غيرهم في العمل لإحداث تغيير في نهج الحكومات ولم يهاجروا. وهؤلاء ومن سبقهم أو تبعهم من المناضلين الذين كشفتهم الأجهزة الأمنية أو لم تكشفهم هم الأجداد والآباء السياسيون لمحتجي الدوار الرابع والمحافظات الذين أسقطوا حكومة إفقار الشعب. وتخرجت في الجامعة في ثلاث سنوات لأجدني مفصولا من العمل بعد أن أصبحت هويتي السياسية والفكرية معروفة. ولن أحدثك عن معاناة البحث عن عمل فذلك مكانه ليس هنا. ولم يمض وقت طويل حتى انضممت إلى قائمة الممنوعين من السفر وحُجِز جواز سفري سنين طويلة. ألا ترى أنّ موقف الحكومة آنذاك كان واضحا بل ربما أوضح من الجواب الذي حصلت عليه إذ لم تترك لفكرة الهجرة فرصة لتدخل إلى رأسي. فالهجرة بحاجة إلى جواز سفر ولكنه كان "في الحفظ والصون". ولم أكن نسيج وحدي الذي لم يسمح له بمغادرة البلاد. ويقدّر البعض عدد هؤلاء بالآلاف في ظل عدم توفر إحصاءات رسمية منشورة.
وظل الأمر إلى ما بعد هبة نيسان عام 1989 إذ سقطت حكومة زيد الرفاعي وجاءت حكومة زيد بن شاكر وحدث انفراج في الحياة السياسية. فخرجت مع رفاقي من سجن سواقة واستعدت جواز سفري. وكنت حينها قد تجاوزت منتصف الثلاثينات. فسعيت للحصول على بعثة دراسية لإكمال دراستي العليا مستفيدا من سجلّي الأكاديمي، ونجحت في ذلك. وحصلت على الدكتوراة في اللغويات من جامعة ريدينغ Reading في بريطانيا. وهنا يا قتيبة صار موضوع الهجرة مطروحا بقوة. فبعثتي لم تكن من جامعة حكومية أو جهة تُلزِمُني بالعودة إلى الأردن، وإمكانية العمل في بريطانيا موجودة. وهناك من قال لي: الحريات في الأردن جمعة مشمشية. وقد تجد نفسك في السجن من جديد. وهذا احتمال قائم فالسياسات في بلداننا ابنة يومها. وكان قراري العودة لأتابع البناء وبطريقتي أيضا. وكنت مسكونا بقصيدة ابن الرومي (هل أنت ممن يسكنه الشعر؟) التي منها:
ولي وطنٌ آليتُ ألّا ابيعهُ
وألّا أرى غيري له الدهر مالكا
دافعت عن أطروحة الدكتوراة يوم 11 شباط 1994وكنت في عمّان يوم 28 من الشهر نفسه. ولم أغادر البلاد للعمل حتى ساعتنا. وجدت وظيفة في جامعة حكومية. لم أصبح وزيرا ولا نائبا ولا مسؤولا حكوميا كبيرا. ترأست قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعتي غير مرة وعملت رئيسا لبرنامج التربية والتعليم في وكالة الغوث الدولية وتشرفت بعضوية مجلس التربية والتعليم لسنوات ثلاث. ولم تتغير نظرتي العامة للحياة. ما زلت أرى الأردن وطنا جميلا يستحق أن نعمل معا لرفعته وأول المطلوبات تغيير نهج الحكومات. تغادر حكومة وتأتي حكومة تشبهها. لا بأس. من خرجوا إلى الدوار الرابع منّا ... من شعبنا. خرج قبلهم مثلهم وسيخرح بعدهم مثلهم وتظل العجلة تدور والمَرْجل يغلي (مع ما يرافق ذلك من "تنفيسة" هنا وأحرى هناك) إلى أن يحدث الفرق. لا ألومك ولا أقول لك إنّ هذا طريق سهل لكني أقول لا يوجد طريق مضمون غيره ل "تصير الأردن زي ما بدنا" كما جاء في سؤالك لدولة رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز، والسلام