بمقامه الروحي ومكانته الاعتبارية لا يجوز التعامل مع زيارة البابا فندكتس السادس عشر بغير الترحيب والتبجيل إكراما لأتباعه من الأردنيين والمتدنيين الكاثوليك في العالم . ويستحق الفاتيكان بناء على مواقفه السياسية من قضايا المنطقة في فلسطين والعراق التشجيع والإشادة في ظل تردي المواقف الغربية وتماهيها مع الموقف الأميركي وانحيازها للإسرائيلي مع كل ما ارتكب من جرائم .
ذلك كله يستدعي حوارا ومراجعة مع الفاتيكان . على أرضية الاحترام والتقدير وصولا إلى كلمة سواء . ليس بين أهل الدين والفكر فقط بل يضاف لهم أهل الثقافة والفكر والسياسة والإعلام . فالفاتيكان عندما يتخذ مواقف سياسية يصبح دولة لا تمتلك الحصانة الروحية ، وعندما يدخل في سجال ديني وفكري تكون آراؤه غير مقدسة . فوق ذلك الفاتيكان مؤسسة تنوء بأثقال التاريخ . وهي كما تتحمل مسؤولية قرارتها اليوم تتحمل موروث قرارات الأسلاف . بخاصة أنها تقوم على الاستمرارية ولا تقول بالقطيعة مع الماضي .
وفي ظل مركزية الفاتيكان وتجسيد السلطة بالبابا تصبغ كل مرحلة من مراحل الفاتيكان الدينية والفكرية والسياسية بشخص البابا المتصدر . وقد أثار انتخاب البابا الموصوف بالمحافظة والتشدد خيبة أمل الإصلاحيين في الكنيسة . فمنصبه السابق كان " حامي العقيدة " وبموجب منصبه ظهرت آراؤه المتشددة حتى في حق أتباع الكنيسة من خلال حصر الإيمان بأتباع الكنيسة الكاثوليكية , وبحسب بيتر جولد مراسل بي بي سي في الفاتيكان فإن
ويقوم مجمع عقيدة الإيمان المنصب الذي شغله قبل توليه منصب البابا يقوم " مقام مجمع محاكم التفتيش السابق، ويعمل على حماية عقيدة الكنيسة الأصلية. "
وقد أطلق عليه بسبب هذا المنصب تسميات مثل "القائم بالتنفيذ البابوي" و"حارس الإيمان".
ولديه بحسب جولد " سمعة بأنه يقوم بخنق أي انشقاق في الرأي، وكانت إحدى حملاته المبكرة ضد "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية. فقد انخرط بعض رجال الدين في مكافحة الفقر عبر العمل الاجتماعي، غير أن راتسينجر اشتم في ذلك رائحة الماركسية"
كما تحدث أيضا ضد الجنسية المثلية، ووصف موسيقى الروك يوما ما بأنها "أداة لمناهضة الدين".
سيجد البابا ترحيبا من المتدنيين في المنطقة بآرائه التي يعتبرها الغرب متشددة ( الشواذ والإجهاض واستخدام الواقي الذكري وتحديد النسل ..) لكنه سيجد عاصفة احتجاجات تتعلق باعتذاره للمسلمين عن مسألتين . خصوصا أنه اعتذر عما فعله القساوسة بالكنيسة الأرثوذكسية عندما زار اليونان واعتذر للبروتستانت واعتذر لليهود وأتباع الديانات غير السماوية ، وفي أميركا اعتذر عن الاعتداءات على الأطفال . ألا يستحق العرب والمسلمون اعتذار عن الجرائم التي ارتكبت بحقهم باسم الكنيسة في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ؟
يقول الكاتب فهمي هويدي "ي منتصف التسعينات كان قد عرف ان الفاتيكان قد اعد لجنة خاصة لدراسة اعلان الالفية الجديدة المتضمن لدعوة تطهير الذاكرة. فوجه الكاتب السوري جورج جبور الذي كان يعمل مستشارا صحفيا برئاسة الجمهورية رسالة الي السفير البابوي في دمشق, ناشد فيها لجنة الفاتيكان ان تشير في اعلانها الي الاعتذار للعرب والمسلمين عن الفظائع التي ارتكبتها الحملات الصليبية ضد العرب والمسلمين في القرن العاشر الميلادي لكن الرسالة اهملت ولم يكن لها صدي يذكر".
يقول المؤرخ الفرنسي الشهير غوستاف لوبون " كتابه "حضارة العرب" عن محاكم التفتيش: «يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائضنا من قصص التعذيب و الاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرين على المسلمين المنهزمين ، فلقد عمدوهم عنوة، و سلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع." ويضرب مثالا على تلك الحقبة السوداء":
اقترح القس "بليدا" قطع رؤوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء و الأطفال، و هكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين عربي». و كان الراهب بيلدا قد قتل في قافلة واحدة للمهاجرين قرابة مئة ألف في كمائن نصبها مع أتباعه. و كان بيلدا قد طالب بقتل جميع العرب في أسبانيا بما فيهم المتنصرين.وتم حظر اللغة العربية، وأحرق الكردينال "أكزيمينيس" عشرات الآلاف من كتب المسلمين. يقول غوستاف لوبون: "ظن رئيس الأساقفة أكزيمينيس أنه بحرقه مؤخرا ما قدر على جمعه من كتب أعدائه العرب (أي ثمانين ألف كتاب) محا ذكراهم من الأندلس إلى الأبد. فما دَرَى أن ما تركه العرب من الأثار التى تملأ بلاد إسبانية يكفي لتخليد إسمهم إلى الأبد"
إن إحراق البشر أحياء ليس اختراعا نازيا بل هو ما قامت به محاكم التفتيش باسم الرب بحق العرب والمسلمين في الأندلس . والذي أوقف محاكم التفتيش في أسبانيا هو الاحتلال الفرنسي ولا تزال إلى اليوم المتاحف تحفل بأدوات التعذيب التي أودت بحياة عشرات الألوف وربما ملاين البشر . وإن اعتذر لليهود وللمهرطقين الذين أبيدوا في محاكم التفتيش فإن أحدا لم يعتذر للعرب والمسلمين إلى اليوم .
ستكون زيارة تاريخية للبابا إن اعتذر للعرب والمسلمين عما ارتكب باسم الكنيسة . وهو اعتذار يفتح صفحات للنقاش والمراجعة تشمل الحاضر ولا تتوقف عند التاريخ . فالأرقام تشير إلى " تهجير " ناعم لمسيحيي المنطقة . ليس بسبب جاذبية الهجرة للغرب فقط بل بسبب الثقافات المتعصبة باسم الإسلام . صحيح أنه لا يوجد بابا يتحمل المسؤولية عن المساجد كما في الكنيسة إلا أن لعلماء الدين دورا في مهما في تجريم التجاوز على المسيحيين وخصوصا في العراق وإشاعة ثقافة التسامح واعتماد معايير المواطنة الدستورية .
بغير ذلك تظل الزيارة في سياق حفاوة يستحقها راعي كنيسة يتبعها مليار كاثوليكي في العالم .