يتطلع الفاتيكان لاستثمار رحلة حج البابا بندكتوس السادس عشر إلى الأراضي المقدسة عبر بوابة الأردن لإظهار الأبعاد السياسية, الاجتماعية, الإنسانية والدينية العميقة لحضور مسيحي مؤسسي في المجتمع المحلي.
كذلك ستعطي الرحلة البابوية إلى مهد المسيحية دفعة للحوار بين الأديان عبر تعظيم الجوامع واحترام الفروقات, على مسار يتسم بمضامين متوازنة خلال وجوده في الأردن ثم فلسطين فإسرائيل.
في زيارته هذه تكريس ل¯"حج بابوي" إلى البلاد المقدسة, حيث انطلقت كرازة السيد المسيح بمعموديته على يد يوحنا المعمدان قبل ألفي عام على الضفة الشرقية لنهر الأردن.
الحج يشكل امتدادا لمقاربة سلفيه, البابا بولس السادس عام 1964 وبعدها البابا بولس الثاني, الذي استغل رأس الألفية الثالثة ليدشن المغطس موقعا وحيدا لعماد السيد المسيح, وبذلك احتل الترتيب الثالث بين الأماكن المقدسة لدى المسيحيين بعد مهد عيسى ابن مريم في بيت لحم ودرب آلامه وكنيسة القيامة في القدس.
في الجانب الروحي تتضمن رحلة الحبر الأعظم زيارات إلى المغطس, حيث يجدد مع المؤمنين مواعيد المعمودية ويصلي من أجل السلام المفقود في هذه المنطقة منذ قرن ويزيد. على مد ناظريه ستظهر الأراضي المحتلة, حيث يتطلع الفلسطينيون إلى رفع علم دولتهم المستقلة في القدس الشرقية وسائر الضفة الغربية وقطاع غزّة. كذلك سيبارك حجري الأساس لكنيستي الروم الكاثوليك واللاتين في الموقع, الذي كان حقل ألغام مغلقا حتى عام ,1994 حين أبرم الأردن وإسرائيل معاهدة سلام.
وعلى جبل نيبو قرب مادبا, الذي وقف عليه النبي موسى قبل رحلته الأخيرة إلى الخالق, سيصلي البابا داخل كنيسة قيد الإنشاء. وسيزور أيضا قرية أم الرصاص المجاورة, التي تعد من أهم الاكتشافات الدينية الحديثة, إذ تحتوي جنباتها على 14 كنيسة عتيقة من فجر المسيحية. تفيد الروايات الدينية بأن هذه القرية كانت موئل الراهب »بحيرة« الذي تنبأ بأن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ستكون له مكانة عظيمة حين كان بعد في الثانية عشرة من عمره. كما يقيم خليفة بطرس الرسول قداسا كبيرا في ستاد عمان الدولي, بمشاركة أكثر من 40.000 مؤمن, غالبيتهم من دول الجوار كسورية ولبنان وسياح أجانب.
إلى ذلك, يضع البابا حجر الأساس لجامعة مادبا, التي تشرف عليها البطريركية اللاتينية بعد أن تبرع سلفه البابا بولس الثاني بثلاثة ملايين يورو خلال زيارته, قبل تسع سنوات لتعكس الحضور الفكري المسيحي. في مركز سيدة السلام لذوي الاحتياجات الخاصة سيلتقي المشرفين والنزلاء لإبراز الحضور الاجتماعي في خدمة المواطنين كافة; مسلمين ومسيحيين.
بعيدا عن رحلة الحج والصلاة والعبادة, تحمل الرحلة البابوية طابعا سياسيا.
إذ سيلتقي قداسته جلالتي الملك عبد الله الثاني والملكة رانيا, ليعبر عن سعادته الكبيرة بزيارة الأردن, وليعيد تأكيد ضرورة تطبيق حل الدولتين - قيام دولة فلسطينية مستقلة بجانب إسرائيل كمدخل لسلام شامل في المنطقة في تلاق تام مع الموقف الأردني.
وفي مسجد "الملك حسين" الكبير على ربوة دابوق, يلتقي رجال دين ومفكرون ومثقفون لتعزيز حوار الأديان المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى. فسهام الانتقادات من مسيحيين ومسلمين ويهود تطال البابا بندكتوس بسبب مواقفه وتصريحاته التي تعتبر مسيئة لمشاعرهم وتقف حجر عثرة أمام التئام الجروح بسرعة.
عدد كبير من المسيحيين في الغرب غير راض عن أدائه, لأنه برأيهم أن رجل دين مثقف مثله لا يساعد على عصرنة المدرسة الكاثوليكية فيما يخص الجانب الشخصي للفرد والأسرة المسيحية التقليدية كي تتواءم مع ظروف الحياة في الألفية الثالثة. فعظاته كلها تندد بالزواج بين أفراد الجنس الواحد, وبالطلاق وموانع الحمل والزواج العرفي, باعتبارها أزمات تشكل خطرا داهما للحضارة الحالية.
وتستمر تداعيات تصريحاته الشهيرة التي صدرت بعد عام على تنصيبه وبدا فيها وكأنه يربط الإسلام بالإرهاب. إذ كان البابا بندكتوس اقتبس, خلال محاضرة حول "الدين والعقل" في 11 أيلول 2006 في احدى جامعات ألمانيا, من كتاب إمبراطور بيزنطي ينسب إليه قول: إن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) "أمر بنشر الإسلام بحد السيف".
ذلك التصرف أثار موجة انتقادات واسعة آنذاك في العالمين العربي والإسلامي.
على أن البابا ومعاونيه اعتذروا عن تلك التصريحات علانية في أكثر من مناسبة. كما نظم الفاتيكان استقبالا استثنائيا لسفراء الدول الإسلامية المعتمدين لدى الفاتيكان لتفسير موقف الحبر الأعظم.
مع ذلك, يستمر التوتر. إذ دعت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن قبل أسبوعين البابا إلى الاعتذار مجددا عن تصريحاته, وذهبت حد تخيير الفاتيكان بين الاعتذار أو إرجاء زيارة البابا إلى المنطقة.
كذلك تستمر الأزمة بين الفاتيكان وإسرائيل جرّاء تصريحات للأسقف البريطاني الكاثوليكي ريتشارد وليامسون الذي خفّف من حجم المحرقة النازية لليهود وأنكر وجود غرف غاز. إذ اعتبر أن قتلى اليهود في معسكرات الاعتقال النازي لم تزد على 300 ألف, وليس ستة ملايين كما يشاع.
منذ تلك التصريحات التي أدلى بها لتلفزيون أسوجي قبل أسابيع, قامت قيامة اليهود ولم تقعد لأن البابا كان لتوّه قد رفع الحرم الكنسي الذي كان قد أنزله الفاتيكان على أربعة أساقفة كاثوليك قبل عقود, من بينهم وليامسون, في محاولة لرأب الصدع بين جماعة الأخير والفاتيكان.
سياحة واستثمار
محليا, يتطلع الأردن الرسمي إلى تعظيم استثمار زيارة خليفة بطرس الرسول لاستقطاب كاثوليكيي العالم في زيارات دينية مستقبلية على أمل مضاعفة المردود السياحي متكئا على تنوع المنتج السياحي الأردني.
فالصور التذكارية للزيارة البابوية لمواقع مثل المغطس وجبل نيبو وعظاته التي ستجلب حجاجا من سورية ولبنان وسائر العالم, تشكل مكسبا سياحيا للمملكة.
ففي تلك الصور "شرعنة لقضية الأراضي المقدسة" بعد ثلاث زيارات بابوية. كما توفر فرصة ذهبية لاجتذاب كاثوليك العالم, خاصة بعد الاجتماع الذي عقدته وزيرة السياحة والآثار مها الخطيب في نيسان مع الأب سيزار أتوبري الذي يدير "أوبيرا رومانا بيلليغرناجي" - مؤسسة السياحة والسفر الخاصة بالحج المسيحي في الفاتيكان. إذ أكدت الوزيرة لأتوبري أهمية تعريف الحجاج المسيحيين بموقع المغطس وبمسار المسيحية في المملكة.
يساند ذلك الجهد المنظم, ما قامت به هيئة تنشيط السياحة التي اطلقت موقعا الكترونيا قبل شهور بست لغات للترويج لزيارة البابا والمواقع التي سيزورها. كما وجهت دعوات لكبار الصحافيين ومندوبي وسائل الإعلام المتخصص للوقوف على ثراء وتنوع المنتج السياحي المحلي بين ديني, ترفيهي, نقاهة, أثري وبيئي.
فالكرسي الرسولي يمثّل مليارا ومئة الف كاثوليكي حول العالم, من بينهم تسعة ملايين عربي, منهم أكثر من 25 ألفا في الأردن.
وبين أجندتي الفاتيكان ووزارة السياحة, يأمل عشرات الآلاف من المسيحيين العرب في دول الجوار الصلاة مع البابا بندكتوس السادس عشر لتلبية أهدافهم الروحية والدعاء لحماية بلادهم التي كرست الإطار الذي عاش فيه المسيح والرسل والأنبياء والقديسون.
فهي تشكل للمسيحيين العرب منعطفا في وقت تمر فيه منطقتهم بمرحلة جديدة من التحديات السياسية, الاقتصادية والاجتماعية وضعت الجميع في حالة من الترقب والخوف من مستقبل مجهول.
فتشدّد رئيس وزراء إسرائيل اليميني بنيامين نتنياهو حيال الحقوق الفلسطينية المشروعة يقلّل من فرص إقامة دولة فلسطينية, مستقلة قابلة للنمو والحياة في الضفة الغربية وقطاع غزّة ما يهدّد الأردنيين والفلسطينيين.
تداعيات الأزمة المالية العالمية تلقي بظلالها على اقتصادات المنطقة, دولة تلو الأخرى. والفجوة تزداد بين الأغنياء والفقراء. هذه العوامل مجتمعة تهدّد الأمن والاستقرار الاجتماعي وتوفّر حاضنة للتطرف الفكري والديني.
ويوفّر الإيمان بالله والدعوة إلى التجديد الروحي بالتوبة والإيمان دعما روحيا يساعد المؤمن على مواجهة خفايا الغيب وشحذ الهمم في بلد يرفع شعار: "الله, الوطن والملك".0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net