ثنائية الوجود والفناء في معرض زاد ملتقى
11-06-2018 11:40 AM
عمون- بعد الحفاوة العالمية التي حظي بها العمل التجهيزي الضخم للفنان والمؤلف الموسيقي زاد ملتقى «شمش» في بينالي البندقية السابع والخمسين، يقام له معرض جوّال بدأ في بيروت في الصالة الكبرى لمتحف نقولا إبراهيم سرسق (حتى 25 الشهر الجاري)، قبل أن ينتقل إلى فنلندا والنروج والمملكة المتحدة وأستراليا.
يجمع زاد ملتقى ما بين فلسفة الفضاء الأسطوري لتداعيات الحروب، وجدلية مفاهيم النظرة الموضوعية للعمل التجهيزي باعتباره كتابة أنشودة بالضوء والصوت، في عرض بانورامي سماعي بصري وأدائي «برفومانس»، لمراثي العتمة للدلالة على وجودين للقصة: السرد التاريخي الكامن في جدار «شمش» والاسم مستقى من اسم إله الشمس والعدالة في بابل القديمة، حيث دوّنت لأول مرة شرائع حامورابي التي تعتبر أول مجموعة قوانين مسجلة في تاريخ البشرية، وبين نصب «طوطم» - الصاروخ، باعتباره القافية الشعرية لملحمة غواية الأزمنة لدمار البشرية.
يحوّل زاد ملتقى المرئي إلى إشارات من أجزاء لنصوص بصرية تعكس الفكر التأملي الأول لدى السومريين والحاجة المُلحّة لتمجيد الموت: «حين يقول غلغامش أنكيدو إن الموت في المعارك يمكّنه من الصعود إلى السماء والإقامة مع «شمش» إلى الأبد»، وكأن الموت هو الحياة الأبدية. لذا فالأسطورة السومرية «يمسرح» وجودها زاد ملتقى كيقظة الحالم التي يتفرج على منام لا يصدق من فرط سحره. إذ إن فكرة «الوجود والعدم» تخرج من (العماء) أو العتمة الساكنة إلى الزمن المتحرك للضوء، الذى ينمي الإحساس بمؤثرات الأحلام الواردة في ملحمة غلغامش. فالحلم في النصّ الأسطوري يقابل مجموعة من الأحداث الكونية، لا يكون أبطالها محددين، تماماً مثل النجوم. فقد نشأ الحلم عند غلغامش نتيجة خطر كان يهدد أمنه لكونه إنساناً.
استطاع زاد ملتقى أن يمسرح كينونة «الوجود والعدم» عبر حكاية مرثية (مدينة أور)، كما وردت في النصوص السومرية وأن يكشف عن دلالات التكرار. تكرار الكلمات وتكرار المقاطع الكاملة من وقع النحيب والأنين والبكاء الذي يتّسع ويكبر ويبلغ أقصى مداه تماماً مثل حركة الضوء الذي يحوّل عمليات انشقاقه من العتمة إلى لعبة إيهام لسرد حقائق التاريخ وإسقاطاته المدوية في الراهن، الذي تعكس أهوال الحروب وصراعات السيطرة على ثروات الشعوب في بلاد ما بين النهرين. الحقائق تمرّ عبر الواقع المتحرك نحو التاريخ الذي تحوّل بدوره إلى أسطورة.
يتبلور الجانب المسرحي من الحكاية عبر جدار ضخم أشبه بشاشة تفرض نفسها كامتداد زمني شاسع من العتمة. يتحوّل عبر بريق الأثير الضوئي إلى لوحة جدارية لمدينة الذهب المكدّس في خزائن «شمش». ثمة وميض على الجدار ما هو إلا مسارات أثير إشعاعات الضوء التي تشير إلى وجود تفاصيل زخرفية، يتبين أنها من إيهام القطع النقدية المذهبة التي اكتشفت في مدينة أور، التي تعكس تداعيات سطوح القار المذهبة التي زينت أروقة المعابد والهياكل والمقابر في الحضارة السومرية. ومع تأملات انبعاث العتمة والضوء تتشكل أمامنا دلالات هذا الفضاء الجداري وعلاقته بخلفيات الانشقاق والاختزال ومفارقات الإخفاء في سرد تاريخ الحروب. فالأثير الضوئي ينقلنا من المتجانس في ذاكرة الذهب إلى غير المتجانس في علاقة شرارات انفجارات القنابل بدلالات السيطرة على فيض السطوح المذهبة، في ميكانيكية التشابه والتطابق في ذاكرة تاريخ الحروب واستباحة نهب ثروات الشعوب. لذا فإن ربط العناصر المرئية وآفاقها السيميائية يجعلنا نسترجع تاريخ صناعة الأسلحة الأولى مقارنة بأدوات الدمار الراهنة، أي العلامة الغريزية الثابتة والعلامة التكنولوجية المتحركة الكامنة في هالة نصب الطوطم– الصاروخ الفضائي الملغز، الذي يحيلنا بدوره على الجانب السيكولوجي من تقلبات الأزمنة.
يعمد زاد ملتقى إلى استحضار كل إمكانات العتمة والضوء والصوت كي يحرِّضنا على استقراء حركات مسالك الضوء على جدار الأزمنة ومواجهة ديمومة ملاحم الحروب وسقوط التاريخ البشري في حلقات العنف المتشابهة التي جسّدت ذكريات الأنين والآلام والدموع ودرامية الفناء والإبادة والزوال في حياة الأمكنة والشعوب. لذا يظهر الجدار أشبه بعباءة شرقية تتكدس في تفاصيلها ذرات من ألوان الأشياء الخالدة والزائلة، ألوان أراضي البخور والعسل والذهب وممالك الحضارات القديمة المفقودة في رمال الصحارى والمناجم والآبار، التي أشعلت جميعها شرارات الحروب.
تتماوج الألوان المذهبة بثرائها كحدس كوني شبيه بمجموعة شمسية لطاقات حركة خفية قوامها البقاء والتدهور، الثبات والاختفاء، تماماً كرمال الصحاري التي تحتفي بالضوء مع وثبات الغموض الكبير للريح، لا سيما أن متواليات اللعب على مسرحة حركات الضوء والصوت تجعلنا على تماس مع خفايا أجواء الظلمات على نغمية موسيقى طقوسية (جوقة الجامعة الأنطونية). لذا يبدو جدار «شمش» كمنصة للسفر، يروي بالمرئي إيقاعات الغوص في فضاءات الأرحام الأسطورية للحروب. فضاءات تنقب في متاهات الهاوية، حيث تتمثل الحقيقة كاملة في لا متناهي الصوت الجماعي، الذي ينبثق في العتمة كأناشيد الروح، التي تتجلى كرشقات من نجوم ترمي نبالها على جدار «شمش» كمراثي مشبعة بالأنين والدموع، تؤديها جوقة تقف فوق معابر الليل البهيم وأصواته الخفية، كي تغسل في ترانيمها الحزينة أوهام الوجود والعدم، أوهام القلق المزمن لمواجهة أقدار الحروب.
يرمز عمل زاد ملتقى إلى مسألة جوهرية قوامها أن أحلام الإنسان وأساطير الشعوب هي خميرة المستقبل. وأن «شمش» لا ترمز إلى الفراغ والعدم ولكنها هي نفسها العدم والفراغ، لأنّ واقعية الحروب التي تشهدها أزمنتنا الراهنة في بلاد ما بين النهرين تروي مواربة حكايات الأشياء الكامنة في وسائل القتل والدمار. وهذا ما يجعلنا نتوهم أن صورة تلك الأشياء هاربة وأنّها تتغيّر في كل لحظة، وأنه لا وجود لصورة ثابته، لأنّ الصورة هي الأثير المتحرك على ضفاف التاريخ. لذا فإن حركة الضوء هي التي ترسم صورة الزمن وتلتقط معالم الحقيقة، في نسيج خلايا الطاقة الحربية الكامنة في صناعة وسائل الدمار، داخل الجسد الطوطمي الواحد، الذي يكشف أمامنا ماهية تشابك الماضي والحاضر في تكنولوجيا الموت، تكنولوجيا الطواطم الجديدة السجينة داخل قوالب أسطوانية، تنشر أضواء لهبة الفناء والإبادة، كشأن الأشعة المتفجرة التي تحدثها القنابل الذرية والصواريخ العابرة للقارات. (الحياة)