كان من أول الأجهزة التكنولوجية للمتعة والاستمتاع في الشرق الأوسط والعالم أجمع ما كانوا يسمونه بصندوق الفرجة، وهو ما كنا نعرفه في العراق بصندوق الدنيا. كان يأتي صاحب الصندوق فينصب صندوقه على حمالة وينطلق فينادي بأعلى صوته بنغمة رتيبة: «شوف تفرج يا سلام، شوف عندك بالتمام، شوف محمد أبو جسام، واقف يغني مقام...».
كنا نهرع نحو الصندوق وندس في يد صاحبه فلساً فيفتح لنا شباكاً مدوراً صغيراً واحداً نتفرج منه على الصورة الجامدة المكبرة. وينطلق الرجل مرتلاً بصوت عال: «شوف عندك يا سلام... شوف هتلر لابس الجزمة، يخطب والناس يمه مهتمة... أما عندك بالتمام، شوف اسمع هالكلام...».
وفجأة ينغلق الشباك الصغير وتختفي الصور. «يا الله يا أولاد خلص فلسكم!» يقول صاحب الصندوق. فتدوي منا أصوات الاحتجاج: «حرام عليك. الله ما يقبل. دقيقتين وخلص حق الفلس. سيد حميد يخلينا نتفرج ساعتين بالفلس».
أثار صندوق الفرجة وحي كثير من الأدباء والشعراء بما انطوى عليه من معان وإمكانات تعبيرية. كان على رأسهم عمر الزعني بقصيدة فريدة أنتقي منها المقاطع التالية:
شوف تفرج آه يا سلام، شوف أحوالك بالتمام، شوف قدامك عجايب، يا حبيبي لو بتشوف، شوف أحوالك عالمكشوف...
شوف جبال وشوف وديان، سوريا وجبل لبنان، كانت قطعة من الجنان، أما اليوم يا حسرة! الأرض حفرة نفرة، ما فيها عشبة خضرة، يا حفيظ ويا أمين، من غدارات الزمان...
شوف الناس عما تبكي، واللي ما بيبكي بيشكي، واللي بيشكي بيحكي، مرضك منك لا تخفيه، يا حفيظ ويا أمين...
والدنيا صندوق فرجة، لا تعرف منها البهجة، من يوم ما خلقت عوجة، لا تبكي
عليها وتنوح، ما بتحرز ما فيها روح، تفرج بعينيك ووح...
قال هذا الكلام عمر الزعني في الثلاثينات، وما أشبه اليوم بالبارحة:
شوف اش صاير ببلاد الشام، روس وعجم وترك وأميركان، كلهم يتخانقون يا سلام، صاروا وكلهم إسلام، طهران وأميركا تحكمهم، من يوم ليوم تفرمهم، وعندك تفرج يا سلام، بشار بيغني مقام، اسمع صوته على الدوام، والناس من ديرة لديرة، لا رحمة ولا غيرة، هجرة وغرقة بكل صورة والله اليحفظ هالديرة. ويرحم عمر الزعني وشعره!!
الشرق الأوسط